يوم بدْء العَهد الجَديد:
عِظة بطرُس
عندَ حلول الروح القدُس في اليوم الخمسين على التّلاميذ، كان مجتمعًا في أورشليم بمناسَبة عيد الخمسين اليهودي {عيد الأسابيع} كثير من يهود الشّتات{أعمال11 ـ 6 :2}وكانوا يتكلّمون بلغات البلاد التي يقطنونها وعندما سمُع الضّجيج من الجوّ اجتمع كثيرون منهم تجاه البيت حيث كان الرسل وقد تملّكتهم الدّهشة والحيرة، ماذا عسى أن يكون هذا وماذا يعني كل هذا؟ وتساءلوا كيف يمكن لهؤلاء الجليليّين أن يخاطبوهم باللغات التي ولدوا فيها، واتَّهم البعض منهم التّلاميذ مستهزئين بأنهم سكارى {أعمال13 ـ 7 :2} فأنبرى لهم بطرس الرسول وألقَى في المجتمعين خطبة حماسيّة اختلطت فيها العاطفة المتّقدة بالخِبرة الروحيّة وشهادة الإيمان الصّادقة واستطاع في خطبتِه هذه أن يجمع العناصر الجوهرية للأنجيل، وجاء خطابه في أربعة أقسام :
1 ـ تبرئَة الرسل من تهمة السّكر { أعمال 15 ـ 14 :2 } .
2 ـ أنّ الظاهرة التي حدثت تنبّأ عنها الأنبياء {أعمال21 ـ 16 :2 } .
3ـ أنّ يسُوع المسيح قام من الموت طبقا للنبوءة {أعمال32 ـ22 :2 }.
4 ـ أنَّ الرّسل شهود لقيامة الرب وسيادته فالعهد القديم الذي أشار إلى مجيء المسيح قد تمّت نبوءاته والمسيح قد صُلب بأيدي الأثمة وقام من بين الأموات وصَعد إلى السّماء بيمين الآب فهو ربّ ومخلّص.
بدأ بطرس خطابه بتبرئة الرّسل من تهمَة السّكر {أعمال15 ـ 14 :2} وأوضَح أنَّ السّاعة كانت الثالثةـ أي السّاعة التاسِعة صَباحا في حسابنا، وكان من عادة اليهود في الأعياد أنّهم لا يأكُلون ولا يشْربون إلا بعدَ صلاة السّاعة الثالثة.
ثمّ أوضح لهم أنَّ ما حَدث قد تنبّأ عنه الأنبياء فقال: {بل هذا ما قيل في يوئيل النبي} ” ويكون في الأيّام الأخيرة، يقول الله: أني أفيض من روحي على كلّ بشر فيتنبّأ بنوكم وبناتكم ويرى شبّانكم رؤى ويحلم شيوخكم أحلاما ” {أعمال17 _ 16 :2} وعند الرجوع إلى سِفر يوئيل {29 _ 28 : 2 } لا نجد عبارة {ويكون في الأيَّام الأخيرة} التي أضافها بطرس في هذا الموقف الاسخاتولوجي بل يَذكر عبارة {في تلك الأيّام} {يوئيل 2:29 و3:1} وقد فسّر بطرس أحداث يوم الخمسين، بأن نبوءات العهد القديم قد تمّت فيهم فهذه الأحداث هي جزء من أحداث الأيَّام الأخيرة.
و تعبير {الأيّام الأخيرة אחרית הימים} لا يعني نهاية التاريخ لأنها في اصْطلاح اليهود تبدأ بمجيء المسيح وتنتهي بنهاية العالم؛ وقيل الأخيرة مقابلة بالأيام الأولى وهي أيام الآباء والملوك والأنبياء {أشعياء2 : 2}. فتعبير الأيَّام الأخيرة هو تعبير فنّي يشير إلى زمن المسيح أو زمن العهد الجديد؛ فقد كان اليهود يميّزون بين تلك الأيّام בימים ההם أي الأيّام الأولى أيّام الآباء والملوك والأنبياء والأيَّام الأخيرة אחרית הימים أي زمن الحكم الكامِل لله والأعْمال التي سيعمل الله فيها أمرا جديدا { أشعياء 43:19} وسيقطع عهدا جديدا {أرمياء31 : 31 } {راجع ما جاء عن يوم الرب في مقالة ابن البشر _ في الجزء الأوَّل من كتابنا دراسات مسيحيّة} وسيفيض من روحه على كلّ بشر {أشعياء 32:15 } وسيقيم مسكن داود الذي سقط {عاموس 9:11 }.
أن تعبير الأيَّام الأخِيرة אחרית הימים لم يخترعه بطرس بل استعمله كما ورد وكما هو في العهد القديم، فورد في سِفر التكوين أن يعقوب جمَع بنيه لينبئهم بما سيصيبهم في آخر الأيام אחרית _ הימים فقال:” لا يزول صولجان من يهوذا ومشترع من صلبه حتى يأتي {شيلو שלה} وتطيعه الشعوب” {تكوين10 و1 :49 } وتنبَّأ بلعام بما سيحدث في آخر الأيَّام فقال: “أراه وليس حاضرا أبصره وليس بقريب يسعى كوكب يعقوب ويقوم صولجان من إسرائيل..”{عدد 14 و17: 24 }.
في ضوء هذا المفهوم بدأ يسوع كرازته بالقول: “قد تمّ الزمان {قد كمل الزمان} _ מלאה העת “{مر5 1 : 1} وقال بولس الرسول في رسالته إلى العبرانيّين:” أنّ الله الذي كلّم الآباء قديما في الأنبياء …..كلّمنا أخيرا אחרית_הימים في هذه الأيّام في الإبن” {عبرانيين 1 و 2 :1} وأعلن بولس: “نحن الذين أنتهت إلينا أواخر الدهور ” קצה העולמים {كورنثوس الأولى 10:11} ومن هنا ندرك أن بطرس قد استخدم تعبير الأيام الأخيرة”אחרית הימים”، بوعي ليوضح أن عصْر العهد الجدِيد عصْر إتمام الوعود قد بدأ وكأنَّه يريد أن يقول: ” الصولجان الذي ننتظره قد جاء שלה “شيلو” وأسّس كنيسته وأفاض عليها من روحه”. وعندما كان بطرس يتحدّث عن حلُول الروح القدُس على كرنيليوس وجماعته قال: ” ولمّا ابتدأت أكلّمهم حلّ الرّوح القدس عليهم كما حلّ علينا في البدء فتذكّرت كلام الربّ حيث قال أن يوحنّا عمّد بالماء أمَّا أنتم فسَتعمّدون بالروح القدس” {أعمال الرسل16 _ 15 :11}؛ وكلّمة في ” البدء בראשית ” هي الكلمة التي يبدأ فيها أنجيل يوحنّا {1:1 } ورسالته الأولى، وفي كل مرّة تشير إلى وقت مختلف، ففي الأنجيل تشير إلى بدء خدمة السيد، أمّا في كلمات بطرس هنا فأنها تشير إلى يوم الخمسين الذي فيه كان بدء النظام المسيحي وبدء العهد الجديد أي أنّه في يوم الخمسين أنطوى العهد القديم وحلّ محلّه العهد الجديد والرسول يصف هذا البدء في حلول الروح القدس على التلاميذ في أورشليم في يوم الخمسين. وحلول الروح القدس على الأمم {גויים} في بيت كرنيليوس وهذا يعني أن اليهود والأمم دخلوا معا في العهد الجديد وأنهم جميعا كانوا في عصر العهد القديم قبل حلول الروح القدس.
إحتوت عظة بطرس {أعمال 42_14 :2} على أربعة أسس في المواعظ المسيحيّة:
1- كريجماkerygma معناها “إعلان البشير” أي الحقائق المسيحيّة وهي حقائق أساسيّة لا تُناقَش ولا يمكن أنكارها .
2- ذيذاخيDidache ومعناها “تعليم” أي دراسة المعاني المتضمّنة في الحقائق التي تنادي بها المسيحية.
3- Paraklesis براكليسيس ومعناها “الحث”، أي حثّ النَّاس على تطبيق ما تعلّموه من الكريجما والذيذاخي على حياتهم.
4- Homilia هوميليا ومعناها ” معالجة ” أيّ موضوع أو أيّ جزء من الحياة على ضوء الرسالة المسيحيّة.
5- وعلى العموم كان الوعظ { الكرازة } يشمل جزءا من كلّ أساس من هذه الأسُس الأربعة فقد بسّطوا الحقائق المسيحيَّة الواضحة ثمّ شَرحوا هذه الحقائق ثمّ حثّوا الناس على تطبيقها على حياتهم ومعالجة كلّ النشاط الأنساني على ضوء الرسالة المسِيحيَّة.
وسِفر أعمال الرسل معظمه من الكريجما، لأنَّه ينادي بحقائق الأنجيل لأولئك الذين لم يسْمعوها من قبْل وهذه الكريجما تتّبع نمطا يتكرّر مرّات عديدة في كلّ العهد الجديد .
يؤكّد بطرس {أعمال36_22 :2 } أنّ الصّلب لم يكن حدثا عارِضا، بل كان في خطّة الله الأزلية: ” لمّا أُسْلِم بحسب مَشورة الله المحدودَة وعلْمه السّابق، صلبتموه وقتلتموه بأيدي الأثمة”. {أعمال 2:23 } { يتردّد هذا المعنى في أعمال 8 :3 و 28 :4 و 29 : 13 }.
ولم يقلّل بطرس من جريمة الأثمة الذين صَلبوا يسوع المسيح، وفي الحديث عن الصّلب نجد الاشمئزاز والرّعب من الجريمة البشِعة التي ارتكبها الأثمة. { أعمال 23 :2 و13 :3 و 10 :4 و 30 :5 }.
وأوضح بطرس أن آلام المسيح وموته هو تتْميم للنبوءات. وأكّد قيامته، وسِفر الأعمال يلقّب “بأنجيل القيامة” وَ “أنجيل الرّوح القُدس”. فبِدون القِيامة لمَا قامت كنيسة المسيح، وأنَّ القيامة جعَلت منَ التلاميذ ممتَلئين حماسا وجرأة. قال يسوع : “وأنا إذا ارتفعت عن الأرض جلبت إليّ الجميع ” { يوحنّا32 : 12}.
وطالب بطرس الناس بالتّوبة، أي تغيير الفكر والفعْل، وهذه هي التوبة الحقيقيّة، لأنَّ التّوبة هي غفران الخطايا، وهي المصالحة والسّلام مع الله، فمن تاب وآمن واعتَمد له عطيّة الرّوح القُدس وله الخَلاص.
ثمّ يتكلّم بطرس عن المجيء الثاني للمَسيح، ومعنى هذا أنّ الحياة لا تسير على غير هدى بل إلى هَدف محدود.
ويصرّ بطرس على أنّ كل ما حدث قد سبق التنبؤ به، ولقد رفَض اليهود أن يقبلوا أن المسيح هو ابن الله، وأنّه هو المسيح المنتظر، فلو فتّشوا الكتب لوجدوا أنّ كلّ هذا مُدوّن فيها.
ثمّ أنَّ بطرس يذكّرهم بامتيازاتهم، فقد كان اليهود شَعب الله المختار، ويوضح لهم الحقيقة التي لا يمكن الهروب منها، وهي أنَّ هذا الامتياز هو امتياز تكليف وخدمة، وليس لكرامة خاصّة أو امتياز معيّن فعلَيهم أن يتصرّفوا لا كما يرغبون هم، بل كما يريدهم الله أن يتصرّفوا، اذ لم يخطر ببالهم أن الله اختارهم للخدمة ولادخال العالم في نفس العلاقة الوثيقة بالله، التي تمتّعوا بها.
وفي نهاية عظته {اعمال41_ 37 :2 } عندَما أظهر للنّاس الفعل السيء الذي ارتُكب في صَلب المسيح كُسرت قلوبهم وتفطّرت واقتنعوا بأن الذي صَلبوه هو المسيح المخلِّص، فخافوا أن لا يكون لهم خلاص من الشرّ العظيم الذي ارتكبوه. فبيّن لهم أنّ مغفرة الخطايا تَتمّ عن طريق التّوبة والاعتماد فقال: “توبوا، وليعْتمد كلّ واحِد منكم باسم يسوع المسيح لمغفِرة خطاياكم فتنالوا موهبة الرّوح القدس”. {أعمال 38 : 2 }{راجع اعمال 30 :16 ومت 2 :3 ولو 10 :3 }.
ولقد رسم الربّ يسُوع أن تكون المعموديّة باسْم الثّالوث الأقدس “الآب والإبن والروح القدس” {متَّى19 :28} وقول بطرس هنا “وليعتمد كلّ واحِد منكم باسم يسوع المسيح” غايته أنَّ المعتمِد يرتبط اعتماده “باسم يسوع المسيح” : {أعمال 16 :8 و48 :10 و5 :19 و 16 : 22 }. أي أنَّ المعتمِد يُصبح على صِلة وثيقة ب “الإسم” أي بشخص يسوع المسيح نفسه القائم من الموت. {راجع أعمال 16 :3 } وأنَّه “يلبس” المسيح . { غلاطية 27 :3 }.
ويبدو أن هذا الطّلب لم يسبّب استغرابا لدى سامعي بطرس اذ، ربّما كانت لهم معرفة بممارسة المعموديّة، فمعْمودية يوحنّا كانت بالماء لأجْل التوبة، وأمّا المعمُوديّة المسيحيَّة فكانت باسم يسوع ومصْحوبة بعطيّة الرّوح القدس، فكانت تحقيقًا لما تُشير إليه معْمودية يوحنّا {قارن عدد 39 مع أشعيا19 :57 ويوئيل 32 :2 }. “فاعتَمد الذين قبلوا كلامه، فأنضمّ في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس” . {أعْمال 41 : 2 }.
الأستاذ ميخائيل بولس