Articles Arabic

رد على مقال البطريركية “مخالفات لاهوتية وليتورجية عن الأسبوع المقدس”

موضوع منقول من صفحة

Saad Hanna

مقدمة

ما كنتُ لأكتب هذه السطور لولا أن الصمت، في مثل هذا المقام، لم يعد فضيلة، بل صار أقرب إلى الغفلة أو التواطؤ غير المقصود. يؤلمني أن أضطر إلى النقد في زمنٍ يضيق فيه صدر الكنيسة الكلدانية بالحوار، لكن حين تُقال أمور تُمسّ جوهر رسالتنا ومهمتنا كأساقفة وكهنة، وتُلقى أحكام قاسية على ما هو من صلب حياتنا الكنسية، يصبح الكلام واجبًا لا خيارًا. أكتب بدافع الأمانة. ولا أدّعي امتلاك الحقيقة، بل أرجو أن أكون في خدمتها.

في زمن تزداد فيه الحاجة إلى تجديد الوعي الكنسي، لا على حساب التراث، بل انطلاقًا منه، تتبدى بعض الخطابات الكنسية، مهما علا شأنها، وقد وقعت في مفارقة لا تخفى على عين المتأمل: مفارقة الدفاع عن الأصالة بوسائل تُقصيها، وادعاء حماية الطقس بلهجة تُفرغه من روحه. إن أي مراجعة لليتورجيا، لتقاليدها وعناصرها، لا بد أن تصدر عن حسّ رعوي عميق، يُصغي إلى جماعة المؤمنين، ويتنفس من روح التقليد لا من حَرْفية ماضٍ جامد أو توتر حاضرٍ منغلق. فالطقس ليس قانونًا ميكانيكيًا يُدار من برج عاجي، بل هو حياة تُعاش في الجماعة، ويتجدّد بقدر ما يتجذر.

وليس خافيًا أن بعض الملاحظات الأخيرة التي صدرت باسم السلطة البطريركية، وإن حملت همّ التقويم، قد جاءت مشوبة بنَفَس تقريعي، وأحكام استبعادية تفتقر إلى التأنّي، وتهدد بتقويض ثقة المؤمن بتراثه الليتورجي، بل قد تمسّ عمق الهوية المشرقية ذاتها، حين يُرفض ما لم يُولد في بيئة “نقية”، أو يُحكم بالإقصاء على ما اعتبرته الأجيال صلاة خلاص، لمجرد انطباع لحظي أو ذوق خاص. مثل هذا المنهج لا يطهر الطقس، بل يُجرّده من إنسانيته.

………………………………………..

نقد المقال

١. ينتقد البطريرك الاقتصار على الذكور في رتبة “غسل الارجل”، رغم أن ذلك يعكس تقليدًا مستمرًا مرتبطًا بأصل الرتبة – حيث غسَل المسيح أرجل تلاميذه الذكور الاثني عشر. البابا فرنسيس وسّع المعنى، لكن ليس من المنطقي فرض هذا التوسّع قسرًا على كل جماعة. فالرعايا لها خصوصياتها الثقافية والاجتماعية، وقد تفضّل الحفاظ على الطابع الرمزي الأصلي بدلاً من تمييع المعنى. الواقع أن البابا أعطى خيارًا، لا أمرًا مطلقًا. لمَ تُصوَّر الحرية على أنها مخالفة؟

2. وأما الاعتراض على استخدام الطلبات اللاتينية، وعلى وجه الخصوص تلاوة “كرياليسون” وطلبة “يا يسوع الذي اشترطوا عليه بثمن ثلاثين من الفضة”، يكشف عن موقف متشنّج يفتقر إلى الأفق الكنسي الشامل. “كرياليسون” (يا رب ارحم) ليست دخيلة، بل تقليد كنسي جامع. وهي إحدى أقدم الصلوات المسيحية، ذات جذور يونانية اعتمدتها الكنيسة الجامعة في شتى طقوسها، الشرقية والغربية على السواء. كيف تُوصَف إذًا بأنها لا تتماشى مع “الروحانية المشرقية”، في حين أنها متجذّرة في الليتورجيا المسيحية منذ القرون الأولى؟

والأدهى من ذلك، أن غبطته ينتقد الرعايا التي تقتبس هذه الطلبات من الطقس اللاتيني، بينما هو نفسه يشير في نفس المقال إلى توصيات البابا فرنسيس ويطالب باتباعها (كما في رتبة غسل الأرجل). فكيف يُستحسن الإقتداء بالبابا في بند، ويُستنكر في آخر؟ البابا فرنسيس نفسه يصلي “كرياليسون” في صلواته الليتورجية، بكل وقار، ويشدد على عمقها الروحي وتكرارها التأملي.

أما الطلبة التي تُشير إلى “ثلاثين من الفضة”، فهي ليست مجرد ممارسة “لاتينية”، بل تعبير كتابي عن حدث مركزي في رواية الآلام. إن رفضها بحجة أنها ليست من “تراثنا” يوحي بعقلية متحجرة، وكأن الكنيسة الكلدانية كيان مغلق يدور في فلك ذاته، رافضًا أي انفتاح على الغنى الروحي المشترك بين الكنائس.

إن هذا النهج لا يخدم حماية الطقس المشرقي، بل يسجنه في قوقعة إثنية، تُحوّله من جسد كنسي حي إلى متحف فولكلوري يعرض الطقوس كأثر تاريخي لا كوسيلة خلاص. هل الوحدة الكنسية تُبنى بانتقائية انتقادية أم بانفتاح مسؤول على تراث الكنيسة الجامعة؟

3. أما ما يخص الموعظة، فالتقنين الزمني للموعظة وكأنها نشرة أخبار مُزعجة فيه اختزال لمكانة الكلمة. نعم، لا بد أن تكون مختصرة وواضحة، ولكن الحصر بعشر دقائق كما لو أنه قانون منزّل، ينزع الروح عن الكرازة. لا يُقاس التأثير بالزمن، بل بالمحتوى. ومهاجمة الكهنة لأنهم يكرّرون مواعظ سابقة فيه تسخيف لجهودهم.

4. القول بأن الشمامسة والجوقات “يلغون دور الشعب” فيه مبالغة. غالبًا المشكلة هي غياب التوجيه، لا سوء النية. أما “التراتيل الدخيلة”، فالسؤال هو: من يحدّد الدخيل؟ كل لحن جديد كان “دخيلاً” يومًا ما. إن تحوّل كل شيء إلى تحقيق لاهوتي، نجعل الليتورجيا عقابًا لا احتفالًا.

5. أما ما يخص القداس الثالث، فأن يصدر عن غبطة البطريرك تصريح مفاده أن القداس الثالث “لا قيمة ليتورجية له”، فذلك لا يُعد مجرد رأي شخصي، بل حُكم قاسٍ وخطير على أحد أعمدة التراث الليتورجي في الكنيسة المشرقية بفرعيها – الكلدانية والآشورية. وهو تصريح يطرح تساؤلات لاهوتية وكنسية عميقة لا يمكن المرور عليها مرور الكرام.

“القداس الثالث” المعروف تقليديًا بأنه منسوب لنسطوريوس، يُحتفل به في الكنيسة الكلدانية كما في الكنيسة الشرقية الآشورية، وقد حُفظ في المخطوطات الطقسية، وتم تداوله عبر قرون، ولو في مناسبات محددة. فهل يعقل أن يحتفظ شعب بأكمله، عبر أجيال، بصلاة “لا قيمة لها”؟ هذا انتقاص ضمني من حسّ الكنيسة واستمرارية تقليدها، وكأنها كانت تُصلّي بلا إدراك لاهوتي أو بصيرة روحية.

إن لم تكن لهذه الأنافورة “قيمة ليتورجية”، فمن الذي قيّم؟ وعلى أي أساس؟ وأين هي الدراسة النقدية الأكاديمية التي تؤسس لهذا الحكم؟ حتى إن كان نسطوريوس اسمًا شائكًا في التاريخ العقائدي، فإن نسب الأنفورة إليه لا يعني بالضرورة أنها تحمل تعاليمه كما هي. بل إن معظم الباحثين في الليتورجيا المشرقية يرون أن هذه الأنفورة لا تحتوي على تعليم نسطوري صريح، بل تعكس روحانية وتعبيرًا كتابيًا شرقياً عميقًا، يتماشى مع طقس الكنيسة وتاريخها.

وبالتالي، التشكيك في هذه الصلاة انطلاقًا من “الاسم” لا من “النص”، هو اختزال غير علمي، ولا يليق بمكانة المراجعة الليتورجية الرصينة. أليس الأجدر أن تُدرَس الصلاة بمحتواها اللاهوتي، لا بحمولتها الجدلية التاريخية؟

الكنيسة الكلدانية، بحسب تعليمها الليتورجي الأخير، تتبنى التناوب بين القداسات الثلاثة: أداي وماري، ثيودوروس، والقداس الثالث (لنسطوريوس). وهذه الرؤية الطقسية ليست عبثًا، بل محاولة للتوازن بين الأصالة، الغنى اللاهوتي، وتجديد الخبرة الليتورجية. فإذا جُرّد أحد هذه القداسات من قيمته، يتهاوى هذا التوازن، ونعود إلى منطق “طقس أول” و”طقس ثاني” و”طقس هامشي”.

إن كان للكنيسة الحق في اختيار المناسبات التي يُستخدم فيها هذا القداس، فليس لها أن تُفرغه من قيمته الرمزية والروحية. فأي طقس لا يُمارَس باستمرار لا يعني أنه بلا قيمة. قداس مار باسيليوس في الطقس البيزنطي لا يُحتفل به إلا في مواسم قليلة، لكن لا أحد يشكك في قيمته اللاهوتية!

أن يقول البطريرك: “بصراحة، لا قيمة ليتورجية له”، فهذه ليست مجرد “صراحة”، بل تجريح بكرامة التراث دون أي دراسة منشورة أو مراجعة مجمعية موثقة. فهل تُبنى قرارات السينودس على الانطباع الشخصي؟ وأين يُصنَّف هذا الكلام من الناحية التعليمية إن لم يصدر من مرجعية مجمعية مشتركة؟

مثل هذه التصريحات تُضعف ثقة المؤمنين بتراثهم، وتُربك الكهنة في ممارستهم، وتُعطي انطباعًا أن الطقس الكلداني خاضع لأهواء ظرفية، لا لتقليد مستقر.

……………………………………………..

خاتمة

غير أن ما يلفت الانتباه، بل يثير التساؤل العميق، هو الأسلوب الذي اختير لطرح هذه الملاحظات. فبدل أن تُصاغ كمراسلة رسمية تُوجَّه إلى الأساقفة ضمن الأطر المجمعية للكنيسة، أو تُناقَش في سياق لاهوتي تشاركي، اختير أن تُنشر علنًا عبر صفحة البطريركية، وكأن المقصود منها ليس فقط التصحيح بل التوبيخ العلني. هذا الأسلوب لا يليق بسلطة رعوية مدعوّة أن تبني لا أن تفضح، أن تُقنع لا أن تُدين. إن طرح مسائل ليتورجية معقّدة أمام جمهور عام، بمن فيهم من لا دراية له بخلفيات الطقس وأبعاده، يُفرغ النقاش من عمقه، ويُحوله إلى عرضٍ للسلطة بدل أن يكون مَجالًا لممارستها بروح الخدمة والمشورة.

إن هذه الطريقة تعكس نمطًا في القيادة يُقصي المجمعية، ويُضعف الحس الكنسي التشاركي، حين يُدار الطقس بمرجعية فردية تتخطى الشورى الأسقفية، وتضع الجميع في موقع التلقّي لا التفاعل. الأسوأ من ذلك، أنها تفتح الباب أمام تسريب التوترات الداخلية إلى الجمهور، وتزرع الشك في نفوس المؤمنين حول وحدة الكنيسة ورؤية رعاتها. وحين يُختزل الطقس في قرارات تُطلق من أعلى، ويُدار بمزاج إعلامي لا بنَفَسٍ لاهوتي مجمعي، فذاك هو الخطر الحقيقي على الروحانية الليتورجية: أن تفقد الكنيسة لغتها المشتركة، فتتحوّل الصلاة إلى صدى سلطة، لا إلى تنفّس الروح.

إن الطقس ليس صدى صوتٍ من الماضي، بل لغة حيّة تنبض بالحقيقة، وتكشف وجه الله في زمن الناس. وكل محاولة لتأطيره ضمن أحادية نظرة أو مزاجية السلطة، هي قطيعة صامتة مع سر الكنيسة: أن تكون مكان اللقاء، لا المراقبة؛ موضع الوحدة، لا الفرز. لهذا، فإن النقد هنا لا ينطلق من معارضة شكلية، بل من غيرة على جوهر الإيمان، وحرص على أن يبقى الجمال الليتورجي لغة نعمة، لا ضحية تنظير.

ويبقى الأمل أن يتحول هذا النقد، بما فيه من حزم ووضوح، إلى دعوة صريحة لإعادة النظر، لا فقط في تفاصيل الاحتفال، بل في الذهنية التي تُديره. فكنيسة بلا مساءلة، بلا تعددية أصوات، بلا اعتراف بقيمة التقاليد التي تشكلها، هي كنيسة تُخاطب ذاتها بصدى الفراغ. أما الكنيسة التي تصغي، حتى إلى النقد، فتُولد من جديد عند كل مفترق، قويةً بضعفها، حيةً برجاء الذين يصلّون ولو بلحن “دخيل”، ولكن بقلب صادق.

…………………………………

نداء

من هنا، ومن منطلق الشراكة في الإيمان والغيرة على وجه الكنيسة وصلاتها، أرفع صوتي بنداء صادق إلى بطريركيتنا الكلدانية الموقرة، أن تُعيد النظر في نهج طرح الملاحظات الليتورجية بهذه الصورة العلنية المتكررة، التي تُربك المؤمنين، وتُضعف الثقة بين الرعية والرعاة، وتفتح جراحًا كان الأجدر أن تُعالَج بالحوار الداخلي والتمييز الراعوي المشترك.

ليت الصوت الأبوي لا يُقال عبر بيانات تُشعر الكهنة والشعب أنهم تحت المحاكمة، بل يُسمَع في محبة المجالس، وفي حكمة السينودس، وفي لقاءات لا تنقصها الصراحة ولا تغيب عنها الرحمة. فالكنيسة لا تُبنى بسلطة الكلمة وحدها، بل بالشركة التي تحتمل الكلمة وتحتضنها، حتى حين تكون قاسية.

About the author

Kaldaya Me

Add Comment أضف تعليق

Click here to post a comment

Follow Us