الجزء الثاني عشر: أبرام (أبراهيم) الكلداني ܐܒܪܡ ܟܠܕܝܐ

قـراءة معـمقة للمشروع الخلاصي بناءاً عـلى نصوص الكـتاب المقـدس

مقـدمة:

قـبل أن نـتـوجه نحـو تـفاصيل كـتابـية بخصوص دعـوة أبرام الكلداني مِن قِـبَل اللـه، عـلينا أن نتـفهم أولاً المعـنى اللاهـوتي والفكـري لكلمة (الدعـوة) حـيث لهـذه الكلمة إشكالات في الفهم الدارج والمتعارف عليه في الوسط الشعـبي والديني من فـوقـيات (تـفـوّق) العـقـل البشري، وكأنها تـدخل في حـيز الإلهـيات ولا يمكن المساس بها أو فهمها لأنها من عالم الفائق الطبـيعة . وتـدرج ضمن الإرادة الإلهـية غـير قابلة للنقاش فـيها لأنها تـفـوق محـدوديات البشر الفكـرية واللغـوية ، ولو أنها كـتبت بلغة بشرية . هذا مما أدى إلى أن بعض المفكـرين في العصر الحـديث تضادّوا مع هذا النوع من الـفكـر الديني الذي لا يغـني الفكـر البشري بمحـتواه وواقـعـيته.

الدعـوة:

الكلمة (دعـوة) هي مِن (دعى- يدعـو) لغـوياً ، أي هي دعـوة موجهة من شخصٍ إلى شخص آخـر لمأدبة أو مناسبة أو حـدث هام ، والطرف الآخـر يقـبل هذه الدعـوة . كـتابـياً من الجانب اللغـوي والمعـنوي مقـبـول وصحـيح.  لكـن له معـنى أعمق وهو الإخـتيار والـفـرز أي (الخـصخـصة) لأشخاص في التأريخ البشري لهم المقـدرة على الفهم والإدراك في تحمل المسؤولية تجاه مجـتمعاتهم أو مؤسساتهم سواء دينية أو دنـيـوية تطمح للوصول إلى رقي أفـضل في تـقـدم الإنسانية إجـتماعـياً وإقـتـصادياً وروحـياً أيضاً . وهذا يكـون من خلال اشخاص لهم الموهـبة فكـرياً أو عـلمياً ، ومن بـينهم أبرام الكلداني كما بينا ذلك سابقاً.

دعـوة أبرام الكلداني:

( وقال الرب لأبرام : إنطلق من أرضك وعشيرتك وبـيت أبـيك إلى الأرض التي أُريـك . وأنا أجعلك أمة كـبيرة وأباركك وأعـظم إسمك ، وتكـون بركة . وأبارك مباركـيك ، وألعـن لاعـنيك ويتبارك بك جميع عشائر الأرض) تكـوين 12/1-3.

إنطلاقاً من موقـف أبرام من عـبادة الأوثان ، قـرر أن يحـرق هـيكل الأوثان بما فـيه ، وأن يوجه أبناء شعـبه حسب تصوره نحـو عـبادة اللـه الخالق الذي إكـتـشفه بداخله . لكـنه لم يحـضَ برغـبته هذه ، وتصدى له شعـبه ، مما أدى بـ ــ تارح ــ أبـيه ان يأخـذ عائلته ويخـرج من أرض الكـلـدان إلى حاران خـوفاً عـليهم وحـفاظاً على حياتهم . هذا الإحساس العـميق لدى أبرام بالـله الخالق جعل منه رجلاً مسؤولاً يتخـذ عـلى عاتقه مسؤولية نـشر وإعلان ما يؤمن به ويعـتـقـده . فالهـروب من أرض الكلدان هو علامة أيضاً عـلى أنه لم يستطع أن يقـنع شعـبه بطروحاته التي إكـتـشفها بخصوص الإله الخالق ، ضمن فكـر ضيق متعـلق بآلهة صنعها البشر يرفـض أي تغـيـير من الممكـن أن يهـز تركـيـبة وتكـوين مجـتمعهم الرتيب . لذا فـضل الخروج لكي يستطيع ان يجـد له أرضاً يحيا بها وينعـش فكـره وإحساسه مجـدداً بحـرية الإنسان المخـلـوق على صورة إلهه.

إنطلاقاً من هـذا الحس العـميق بالـله لدى أبرام ، يجـد نـفسه مدعـو من قـبله في هـذا العالم ليعـلن عن قـوته وعـظمته ومجـده ، أي أنه مخـتار مِن قِـبلِه ليؤسس شعـباً يؤمن به . الدعـوة لدى أبرام هي إكـتـشاف وكـشف ضمن زمن تطورت فـيه مداركه الفكـرية ومسؤوليته في العالم الذي يعـيش فـيه . أبرام إكـتـشف مَن هو الـله الخالق ، والـله الخالق كـشف له ذاته حتى ينطلق نحـو مستـقـبل يعـرف الإنسان مِن خلاله الـله الذي خلقه لكي يجعله حراً ومبدعاً في العالم الذي يعـيش فـيه بفـرح وسعادة ، تجعل حياته أفـضل في السعي نحـو تكـوين إنسانية يحـياها البشر تمتاز بالرقي وتـنمو على صورة خالقها . هذا هو مشروع الخلاص الإلهي ، وهذه هي دعـوة.

الاب پـيتر لورنس