كلدايا مي: نختار مواضيع التي تعالج ظروف اليوم اتعس مما كان يوم امس
الكهـنــة
تحتاج كنيستي إلى مزيد من الكهنة ليخدموا في حقل المسيح الواسع. وهناك كهنة صالحون عملوا في كرم الرّب بإخلاص واستمرارية سنوات طويلة. ومنهم قضوا نحبهم، وآخرون ما يزالون يناضلون في سبيل الأمانة للانجيل وللقيم الروحية.
ان الدعوات الكهنوتية كثيرة في كنيستي، والحمد لله. ولكن هل ثمة من يواكبها حقًا في مسيرتها إلى الكهنوت، عبر سنوات طويلة من الدراسة، في ظروف ليست مثالية دومًا. وارى ان هؤلاء الشباب السائرين على درب الكهنوت عليهم ان يتلقوا تثقيفًا ثلاثي الأوجـه :
ا : روحيـًا
وهذا امر يقتضي ان يكون معهم كهنة من ذوي الخبرة والسيرة الصالحة، لكي يرافقوهم ويرشدوهم إلى حياة المحبة والفضيلة، ولكي يوجّهوهم ليتبعوا المسيح جذريًا في طريق التجرد والخدمة والتضحية. وعلى هؤلاء الكهنة، رؤساء كانوا أو معلمين أو مرشدين، ان يقدموا للشباب المتوجهين نحو الكهنوت مثال حياة كهنوتية رصينة. فلا يكفي ان يوفّروا لهم السكن والطعام والدراسة، بل عليهم ان يرسخوا حياة هؤلاء الشباب على المسيح، لكي يصبح المسيح حقًا محور حياتهم ومنطلق أعمالهم ومحط أمانيهم. كنيستي اليوم بحاجة إلى كهنة قديسين لكي يقوموا بالتبشير الجديد بالمسيح وبرسالة “أنجَـلَـة” المجتمع، الذي هو بأمس الحاجة إلى مثل هؤلاء الفعلة الغيورين.
قد تدعو الحاجة إلى إعادة النظر في الحياة الروحية في المعهد الكهنوتي البطريركي: التأمل، الصلاة الفرضية، القداس، القراءة الروحية، الصلاة الشخصية خلال النهار، الخ… فالصلاة يجب ان تحتل قلب حياة الاكليريكي، لأن الكاهن يجب ان يكون قبل كل شيء “رجل صلاة”، وإلا انتهت حياته إلى السطحية والتفاهة. وهل ثمة حاجة إلى التذكير بأن الكادر المسؤول عن حياة طلاب الكهنوت وتثقيفهم وروحانيتهم يجب ان يقدّم لهم المثل الصالح بحياته ورصانته والتزامه بأسس الحياة الروحية وبما يساعد على تقويتها وتنميتها. وإلا فستبقى الكلمات والارشادات ألفاظًا جوفاة ومنقطعة عن الحياة… وهنا أناشد المسؤولين عن طلاب الكهنوت ان يبذلوا جلَّ إهتمامهم بحياتهم الروحية التي هي الدعامة الأقوى لحياتهم الكهنوتية. قال الطوباوي يعقوب الكبوشي: ازرعوا البرشان، تحصدوا قديسين! أي ازرعوا حب الله والافخارستيا في حياتهم، وسرعان ما تتحققون من عمق حياتهم في المسيح.
ب : عـلـمـيـًا
يحاول المعهد الكهنوتي، بالتعاون مع كلية بابل، تقديم العلوم اللازمة والمواد الكافية للطلاب. إلا ان الهيئة التعليمية ليس لها دومًا الكفاأت اللازمة لإيصال المواد إلى الطلاب بصورة صحيحة. وكثيرًا ما يأتي الخلل من جهة الطلاب أنفسهم، ومن عدم محاولتهم استيعاب وهضم العلوم التي تُعطى لهم، لا سيّما العلوم الفلسفية واللاهوتية التي يجب إلا تبقى عندهم مجرد نظريات علمية، بل ان تتسرب إلى صميم حياتهم، لكي يحيوا ما يتلقونه في شأن الله وتدابيره، وفي شأن الكنيسة ومؤسساتها، وفي شأن الإنسان ومقتضياته. وعلى الطلاب ألا ينسوا هذه الحقيقة: ان الحرف يقتل، واما الروح فيحيي، وان العلم القليل ينفخ الإنسان ويدفعه إلى الكبرياء، واما العلم الكثير والعميق والرصين فيقود إلى الله عن طريق التواضع والخدمـة.
ج : راعـويـًا
يحتاج طالب الكهنوت، منذ سني دراسته في المعهد، إلى التمرّن على ما سيكوّن حياته ورسالته في المستقبل. عليه ان يتعرف أكثر فأكثر إلى المجتمع، ويطّلـع على احتياجاته الروحية والإنسانية، وذلك عبر قنوات رصينة: المسؤولين الدينيين، المرشدين، المعلمين، الزملاء الكبار، إلخ… وذلك لئلا يباغته الكهنوت، وكأنه سقط من كوكب فضائي إلى العالم الأرضي، فانغمس في صعوباته ومآسيه غير المتوقّعة. كـلا! عليه ان يختبر الحياة من مختلف نواحيها، وان يعلم ما فيها من الخير والشر، لكي يكون اختياره صحيحًا وواعيًا وموجّهًا دومًا إلى خير الإنسان، ولا سيّما إلى خير ومساعدة الذين يُعهَدون إلى رعايته. أجل، عليه ان يتعلم فـنّ رعاية البشر: ان يكون مثل المسيح، “الراعي الصالح” الذي يحبُّ خرافه ويهتم بها ويقودها دومًا إلى المراعي الخصبة ويدافع عنها، بل يبذل عنها ذاتَـه، إذا دعا الأمر.
وهنا اتذكر كيف كنا، ونحن بعد تلاميذ، نرافق كاهن الرعية في العطلة الصيفية في زيارة العوائل وتفقّد احوالها وحل مشاكلها. كم تعلّمنا من هذه الخبرة الراعوية. فكم اتمنى ان يتدرب المرشحون للكهنوت على الاحتكاك بالمؤمنين وخدمتهم وعلى طريقة التعامل معهم، في سبيل توجيههم إلى المسيح الذي يجب ان يكون دومًا القطب الأكبر الذي يجتذبنا ويجتذبهم إليه. واناشد المسؤولين ان يعلّموا الكاهن الجديد كيف يحب الجميع، وكيف يجب ان تنبثق من هذه المحبة جميع مواقفه وتصرفاته مع المؤمنيـن. ومن هذه المحبة تأتي ثمار الروح التي يعددها القديس بولس حينما يقول: “اسلكوا سبيل الروح… اما ثمر الروح فهو المحبة والفرح والسلام والصبر واللطف وكرم الأخلاق والإيمان والوداعة والعفاف” (غلاطية 4/22ء ).
فيا أخي الكاهن، حذارِ من روح التسلّط على المؤمنين الأحباء. إنهم أبناؤك واخوتك في المسيح. فلا داعي إلى الاستعلاء عليهم، ولا إلى معاملتهم بقساوة وخشونة وكأنهم عبيد لك. وأيًا كانت مواقفهم ونفسياتهم، فان قلبك الأبوي يجب ان يكون مفعَمـًا بالمحبة والرحمة والحنان في جميع الأحوال. تذكّروا ما يقوله الحكيم: ان العسل يجتـذب الكثير من الذباب، اما الخـلّ فيُبعـدها !
الكـاهـن اليـوم
يريد المسيح ان يكون كاهن اليوم مستعدًا لمجابهة قوى الشر والظلام المنتشرة في العالم، بل في عقر داره، أي في رعيته أحيانًا، وان يجابه أيضًا التيارات المسيئة التي تحاول ان تجرف الناس وتبعدهم عن أهداف حياتهم الأساسية.
لذا يريد المسيح ان يكون كاهن اليوم “واقفًا” أي حاضرًا امام الرّب ومستعدًا ليقوم بما يريده منه في كل لحظة، وان يكون كاهن اليوم “مستقيمـًا”، أي ان تكون حياته كلها حسب نهج دعوته ورسالته بدون انحراف، وان يكون كاهن اليوم “ساهـرًا”، أي ان يكون منتبهًا إلى نداأت الله ونداأت الإنسان، بدون ان يدع المجال للإهمال واللامبالاة في حياته اليومية.
ولكن يا للدهشة! فما إن يبدأ الكاهن الجديد حياته الراعوية كمسؤول عن خورنة معيّنـة، حتى تكتنفه الصعوبات وتنهال عليه المشاكل، وكأنها على موعد معه: مشاكل روحية، معضلات مادية، بالاضافة إلى المشاكل العاطفية وإلى شؤون الكنيسة المتراكمة. انها مشاكل قمينة بأن تغرق الكاهن في الفوضى والارتباك، ما لم يكن قد أرسى أسسَ حياته على المسيح، ووضعَ فيه ثقتَـه الكلية وعاش تحت أنظاره الدائمة.
الكاهن والعزل
ان كاهن اليوم، سواء كان في المدينة أو في القرى والأرياف، يعاني من عزلة رهيبة. فهو يشعر بكونه مهمَـلاً ومتروكًا وشأنه. فلا يتلقى تشجيعًا ولا توجيهًا ولا تنبيهًا مـن رؤسائه المسؤولين عنه، ولا من اخوته الكهنة الذين لا يلتقيهم إلا في مناسبات (أكاليل، دفنات، الخ…) واحيانًا لبعض جلسات المرح بين بعض الكهنة… فلا غبطة البطريرك، ولا السادة الأساقفة الأجلاء يبدون اهتمامًا أبويًا بالكاهن. انما اهتماماتهم تنحصر في الامور الرسمية وفي نطاق اشغالهم أو مصالحهم الخاصة. اما الكاهن، فعليه ان يتدبر شؤونه. لكن الويل له إن زلّت قدمه قيد أنملة، فتنهال عليه التوبيخات والتقريعات والإجراأت التي لا ترحـم !
وبالنتيجة فان كاهن اليوم، ما لم يكن له أساس عميق في المسيح وحياة روحية متينة، يتصرف كما يشاء، ويقوم بأمور تطيب له، بل ينجرف وراء أمور مخالفة لدعوته ورسالته الكهنوتية، أو انه ينصرف إلى حياة كسل ونوم، وكأنه لا هدف له في الحياة! والحياة التافهة التي يعيشها تقود حتمًا إلى نوع من الركود والتشاؤم والتذمر على الكل وعلى كل شيء، وربما إلى الندم على اختياره هذه الطريقة من الحياة، ولكن لاتَ ساعة مندَم !
ربما سيرى البعض من القراء الأحباء في كلماتي هذه شيئًا من المبالغة أو مسحة من التشاؤم. لكني استند فيها إلى خبرتي الشخصية، وإلى خبرة العديد من اخوتي الكهنة الذين يدلون بشهادات عفوية عن احوالهم ومعاناتهم وعن الصعوبات التي يتعرضون لها في سبيل الالتزام بالحياة الكهنوتية والقيـم الانجيلية التي تعهدوا بالسير على نهجها.
فيا أبانا البطريرك، ويا سادتنا المطارنة الأجلاء، إلى متى تتركون كهنتكـم في هذه الحال، التي تنعكس حتمًا على رسالتهم، بل على حال كنيستي كلها، وهي سائرة نحو انحطاط مستمر، وهي بأمس الحاجة إلى من يُنهضها ويرفع شأنها. وهل لديكم، يا اصحاب الغبطة والسيادة شيء اثمن وافضل من الكنيسة التي ائتمنكم المسيح عليها، والتي سيطالبكم ويحاسبكم يومًا على طريقة رعايتكم لها؟ فالكنيسة أولى من مهماتكم الشخصية، وأفضل من جميع مصالحكم، واثمن من كل الكنوز والمقتنيات التي تركضون وراءها والتي تمارس على بعض منكم، ويا للأسف الشديد، تأثيرات بل ضغوطًا عاتية، حتى تكاد ان تستعبدهم! ألم يحن الأوان لكي تفكروا في إنقاذ كنيستكم من حالتها البائسة؟… عسى ان يكون السينودس القادم فرصة مؤاتية يقدّمها لكم ربُّ الكنيسة لمزيد من الإهتمام بها.