قـراءة معـمقة للمشروع الخلاصي بناءاً عـلى نصوص الكـتاب المقـدس
سفر التكـوين وقـصة الطوفان
الجـزء التاسع
مقـدمة:
بناءاً على ما ورد في الجـزء السابق من قـصة الطوفان من تحـليل على واقع النص الكـتابي، وما يحتويه من رموز، مُرادها الكـشف عـن واقع الإنسان في تـفـشي خـطيئـته، وأصله التأريخي المرتبط بإله العهـد بإبراهيم الكلداني من أرض أور (بلاد ما بين النهـرين) فـيما بعـد، إضافةً الى محـتواها اللاهـوتي.
في هذا الجـزء سوف ندخل الى عمق النص الكـتابي ونـشرح معـنى رموزها التي لا نستطيع فهمها إلّا من خلال فهم اصول تـقاليدها التي كتبت بها، من الواقع البشري الى الثـقافة المستوحاة من الحضارة البابلية الى إرتباطها بقـضية شعب يعيش واقعاً إيمانياً مع اللـه الذي يسعى دوماً لأجل خلاصه بالخصوص … وخلاص الإنسان عـموماً.
المحـتوى اللاهوتي لقصة الطوفان:
إنّ تركـيـبة قصة الطوفان تعـود الى تـقاليد مخـتلفة من أزمان مخـتلفة ايضاً، منها العلماني، واليهوي، والكهنوتي، جُمعَـت ما بين القرن السادس والرابع قـبل الميلاد على يد كاتب أسفار التوراة الخمسة الاولى. من هذه التركـيبة المعـقـدة كـتابـياً تظهـر قصة لاهـوتية ذات معاني انسانية عـنـدما يقرأها المؤمن بالـله من اليهود والمسيحـيين تـنـقـل لهم خبرة ايمانية نابعة من تأريخ وحضارة شعب، الى ثقافة وايمان شعـوب جـديدة تؤمن بنفس الإله وتريد ان تستوعب ايمانها بما يتـقـبله العـقـل البشري بموجب الإكـتـشافات العـلمية المثبتة منها والمطروحة، وبموجب الثـقافة الانسانية المتحضرة التي لا يعلو عليها حاكم حتى لو كان الـله بذاته.
عـندما نـقـرأ عن غـضب الـله في قـصة الطوفان، فما هو إلّا تعـبـير بشري من أقـدم تـقاليد التوراة وهو العـلماني، الذي يعـبّـر عن التصرف الانساني في مواجهة المواقـف أمام الاخطاء التي يرتكبها الانسان واحـد إتجاه الاخـر. يقـول الكاتب هـنا، كم بالاحـرى عـندما تكـون خطايانا وشرورنا مع الـله الخالق الذي خـلـقـنا على صورته ومثاله، في الحب، والامانة، والعطاء، والحرية، وعمل الخير. إن غضب اللـه هنا نابع من شر الانسان تجاه أخيه الانسان، لان اللـه لا يقـبل بأذية الانسان ويتأثر بها، كما تتأثر البشرية والمجـتمع ايضاً. حـقـيقةً إنّ هـذا رقي إنساني في مجـتمعات بدوية ، عـليها أن تلفـت إنـتباهـنا.
أما نوح فهـو رجل بار صِدّيق معـروف كإسم في المجـتمع الاسرائيلي. يأخـذه الكاتب من التقليد اليهوي كمثال ليعـبّـر عن موقـف الرب في تجـديد البشرية وتـنـقـيتها من خطاياها وشرورها التي تـفـشت في الارض، لكي يخرج منها بشعـبٍ ومجتمع يكـون صالحاً لخـدمة خـليقـته ونموه وتطوره. انه موقـف إلهي إيجابي، أمام مواقـف بشرية سلبية. الكاتب متـدين مؤمن يشرح الحياة بكل تفاصيلها وجودتها ومنـتـفعاتها، مقابل خطيئة وشر الانسان التي تـدمر هذا الجمال الكـوني الذي أوجـده اللـه لنا.
الاستعـداد للطوفان وصنع السفـينة، فهي من كاتب الـتـقـليد الكهنوتي. هذا يتبين لنا من القياسات التي صنعـت منها السفينة التي هي رمز لهيكل الـله المقـدس بعـد عـودة شعب اسرائيل من جلاء بابل 535 ق.م.
إن رمزية السفينة في القـصة تعـطي معـناً عـميقاً. خلاص الانسان لا يكـون إلّا بالدخـول الى هيكل الـله المقـدس، حيث كلمته وحضوره الالهي. لا يكـفي ان تكـون انساناً باراً أو حسناً، إن فاعـلية الانسان المؤمن وقـدرته مستمدة من الـله المخلص. الخليقة الحسنة بكل اصنافها تأخـذ ديمومتها في الحياة من الـله الخالق (هذا تعـبير ديني وإيماني). لان في هـيكل الـله لوحي الشريعة، والخبز المقـدس (رمز وجـود الـله)، كما نحن اليوم في كـنائسنا (كلمة اللـه، والقربان المقـدس)، والقـداس الالهي كذلك يقسم الى قسمين كـبيرين (رتبة الكلمة، ورتبة الذبيحة). القـصد من هذا كله هو ان الانسان المؤمن المسيحي يحيا ويخلص عـندما يدخل الى كنيسة الـله (هـيكله) لكي يتغـذى روحياً وإيمانياً من أحشاء الـله بكلمته وجسده ويصبح معه في شركة ووحـدة لاجل خلاص العالم.
خاتمة:
بعـد هذا الشرح لا يسعـني إلاّ الـقـول أنّ عـلينا تـثـقـيـف إنسانيتـنا البشرية بعـيداً عن الخـرافات التي تسيطر على افكارنا وعـقـولنا، وتحـدد علاقـتـنا بالـله الخالق الذي دوماً يسعى لبناء الانسان وتـقـدمه في المجـتمع والعالم بلا حدود ولا موانع ولا قانون. كما يقـول القـديس بولس: (كـونوا اطفالاً في شروركم)، يعـني ان نعـبُـر من خطايانا وشرورنا الى الحياة الافضل.
الاب پـيتر لورنس
الرب يبارك حياتك ابونا
نحن بحاجه الى هكذا شرح وإيضاح