الاب بيتر لورانس
مقدمة:
في هذا المقال سوف نتداول موضوع واقع حال كلٍ من اسرائيل، ويسوع المسيح في البرية التي هربوا اليها ليواجهوا كم الشر الموجود في عالمهم من قبل السلطة السياسية والدينية المحيطة بهم. عالم مصر وفرعون الملك (عبودية شعب اللـه)، وعالم اسرائيل المحتل من قبل السلطة الرومانية (يسوع المسيح ابن اللـه). احداث تاريخية تعبر عن شعب وبنوة مرتبطة باللـه تعالى تعطي معنى للحرية من جانبين انساني وروحي، الواحدة تعمق الاخرى بصورة جوهرية، وهي موقف الانسان المؤمن من ما يجري حوله في ان تجعله عبد، أو حر.
الواقع التاريخي لاسرائيل:
سفر الخروج الفصل الثاني الآية 11-25: نلاحظ اسرائيل تحت وطئة فرعون الذي يعتبر نفسه هو الاله الذي يجب له الطاعة المطلقة. موسى النبي ابن اسرائيل ويعيش تحت ظل فرعون ونعيمه، لا يحتمل قهر فرعون لابناء شعبه (لما كبر موسى، انه خرج الى اخوته ورأى اثقالهم…)، فانتفض وقتل المصري الذي كان يضرب رجل عبراني. وفي اليوم الثاني رأى موسى بعد آخر من الشر ينخر ابناء امته من الداخل وهو ان اثنين من العبرانيين يتخاصمان فقال: (لماذا تضرب قريبك؟…).
الحدث في الفصل الثاني يعبر عن بعدين، الاول البعد الخارجي وهو السياسي، والثاني البعد الداخلي وهو اسرائيل نفسه. المهم هو شعور وموقف موسى النبي مختار الـله تجاه العبودية الفرعونية من جهة، وشعور وموقف موسى النبي مختار اللـه تجاه اسرائيل نفسه في الشر الذي ينخره من الداخل. يقول الكتاب: (فخاف موسى وقال في نفسه…)، الخوف هو تعبير انساني عن حالة لها ضرر (فهرب موسى من وجه فرعون وانطلق الى ارض مدين…). هناك موسى يواجه نفسه في البرية امام جبل الـله في حوريب بعد ما كان بنو اسرائيل يتنهدون من عبوديتهم، فصرخو وصعد صراخهم الى اللـه من العبودية. موسى في العليقة المشتعلة (خروج 3) يتحمل مسؤولية إلهية في تحرير ابناء امته من عبودية سياسية، وعبودية داخلية تجعلهم شعب وابناء للـه مرة أخرى بواسطة لوحي الوصايا. حقيقةً شعب مرتبط باللـه لا يستطيع ان يكون عبد، لهذا المواجهة الكبرى لشعب اسرائيل هي في البرية بين قائد محرر باسم اللـه (موسى)، وشعب تعلم على العبودية ولا يعرف ان يحرر نفسه. اسرائيل لمدة اربعين سنة يواجه شر سلطة العالم، ويواجه شر خطيئته الداخلي في كيفية العيش كأبناء الـله الاحرار. صراع مستمر داخل الانسان الى يومنا هذا بين السلطة والشهوة والمادة من جهة، وبين خلاص اللـه لابنائه من جهة أخرى. الرب يسوع فقط يعطيه معناه المتكامل في البرية في مواجهة ابليس.
الرب يسوع في البرية:
سيناريو رائع يورده لنا الانجيلي متى (4: 1-11)، والانجيلي لوقا (4: 1-13)، الرب يسوع في البرية اربعين يوماً ويواجه ابليس. لهذا السيناريو بعد تاريخي حدث نتيجةً الى واقع سياسي وديني وصل به الحال الى ضياع السمات الحقيقية لخلاص اللـه لشعبه، او نستطيع ان نقول ان اللـه اختفى امام سلطات تمثله في مكون شعب الـله ورسالته بالعالم. عند قراءتنا لانجيلي متى ولوقا نلاحظ ان يوحنا المعمدان هرب الى البرية بالرغم من انه من سلالة كهنوتية واجب عليه المكوث في الهيكل، ليؤسس جماعة تدعو للتوبة والعودة الى المكون الالهي في اسرائيل. كذلك الرب يسوع بعد العماد قاده الروح الى البرية، فصام اربعين يوماً وبعد ذلك جاع فجربه الشيطان. معنى كلمة (صام) تعني (انقطع)، الرب يسوع حقيقةً انقطع عن كل ما في حوله من العالم، انقطع عن العالم المدني والديني ايضاً، أي اخذ فرصة لكي يختلي بنفسه من اجل خلاص شعب اللـه، قضى وقت في الصوم والصلاة والتأمل في محتوى شعبه اسرائيل ورسالته في العالم، لانه كما يقول: (ان هذا الجيل الاعوج لا يمكن ان يخرج من عبوديته إلا بالصوم والصلاة). الحرب عند الرب يسوع هي ليست حرب سلاح، لكن هي حرب اصلاح داخل الانسان، وعلى الانسان ان يبدأ من نفسه أولاً. التجارب الثلاثة في البرية هي تعبير عن حالة الانسان ابن اللـه في محاربة الشر في العالم من الداخل والخارج، من سلطة وشهوة ومادة. حرب الخلاص عند الرب يسوع ابتدأت من ساعة خروجه الى البرية. حرب ضد قيصر الذي يعتبر نفسه هو اللـه (إذهبوا وقولوا لهذا الثعلب…)، وحرب ضد رجال الدين الذي لم يطيعهم على حساب اللـه (ايها القادة العميان…). الرب يسوع ضاق به الحال عندما رأى اللـه الآب السماوي ضاع بين رجال السياسة ورجال الدين. اخذ المسؤولية حتى الموت على الصليب في الاصلاح انسانياً ودينياً، واعطى معنى واضح وصورة متكاملة عن إله الخلاص، إله آبائه أبراهيم واسحق ويعقوب. الاله الخالق للبشرية على صورته ومثاله. الرب يسوع في البرية يجعل من فشل اسرائيل نجاح روحي واخلاقي في المكون البشري نكتسبه نحن المؤمنين به من خلال العماد المقدس والافخارستية.
خلاصة:
نستوحي مما ورد في هذا المقال، ان كنيسة المسيح المؤمنة بالرب يسوع، من اساقفة وكهنة وشمامسة وشعب مؤمن، إذا لا تستطيع ان تكون على مثال المعلم الاعظم في مواجهة الشر في العالم مدنياً ودينياً، ليس لها معنى في الوجود الشكلي الذي لا يمثل صاحب الخلاص هو الرب يسوع. دعوة يسوع الينا جميعاً هي ان نكون كاملين وقديسين كما ابوه السماوي هو كامل وقدوس، أي ان نكون على صورته ومثاله في عالمنا اليوم في ان نكون ابناء الـله في مواجهة الشر من سلطة مختلة، وشهوة قاتلة، ومادة مميتة مدنياً ودينياً.