4 نـوفـمبر 2013
بقـلم : مايكـل سـيـﭘـي / سـدني
كانت بداياتي في كـنيسة العائلة المقـدسة / شـارع الروّاف / البتـّاويّـين في نهاية الستينات وهـناك إلتـقـيتُ الأب المرحـوم فـيليب هـيلاي فـتـذكـّـرتـُه وتـذكـّـرَني . كان يطيب لي خـدمة القـدّاس معه لِـما يملكه من قابلية موسيقـية رائعة ومعـرفة عـلمية بالمقامات ولكـني أيضاً كـنت أستمتع بخـدمة القـدّاس مع أيّ كاهـن آخـر في تلك الكـنيسة ، لأن الأب فـيليب كان يرافـق الجـوقة عـنـد هـيكـل الكـنيسة / الطابق الثاني ويتابع فـقـرات القـدّاس الخاصة بالشمّاس موسيقـياً بالأوكـورديون ( دون مرافـقة إيقاع الطـبول ! ) والأكـثر من ذلك ولموهـبته الفـنية هـذه فـقـد كان يعـرف مناوراة الشماس بالألحان فـيتـقـدّمني في عـزفه وكأنه يعـلم ما سأقـوله في منحـنيات المقام . أما بشأن الترانيم ( وأياً كانت ) كـنا نـتـناوب أبـياتها : الشماس من جهة والجـوقة مع جمع المؤمنين من جهة أخـرى ( وكأنـنا ﮔـودا عـلايا و ﮔـودا خـتايا ) وبمرافـقة الموسيقى . إن الكاهـن والشماس كانا يمثـّـلان هـيكل البناء الصوتي للقـدّاس أما الجـوقة والمؤمنين فـكانوا مرافـقـين ، حـقاً كان جـواً ملائكـياً يُخـيّم عـلى الكـنيسة حـسبما كان يقـوله لي الأب فـليب نفـسه . كـنت أبدأ بالمقام بعـد قـراءة الإنجـيل وأخـتار الترنيمة المناسبة له بنـفـسي والجـمهـور يتـناوب فـيتـولد توافـقاً في أذن السامع دون نشاز … وليس مثلما يحـدث اليوم في أكـثر كـنائسنا.
ملاحـظة لا بـد منها : كانت الموسيقى بآلاتها المتـنـوّعة ترافـق الصلوات في المعابـد الـوثـنية منـذ الـقِـدَم ، وهي شيء رائع داخـل الكـنيسة أيضاً ، فـفي الغـرب يُستـخـدَم الـﭘـيانو الكـنسي ، وفي كـنائـسنا الشرقـية نرى الـصـنوج مع الأجـراس منـذ زمن طويل ولا يزال ، فهي تـضيف أجـواءاً رومانسية تمتـزج مع الروحانية لـتسمو بنـفـس الإنسان إلى الأجـواء الملائـكـية أثـناء التـرانيم ، ولكـنها إذا إبتــُـذِلـتْ في طريقة عـزفها ، وفي وقـت ليس أوانها ، تـفـقـد رونـقـها وقـيمتها ! وفي أيامنا الحاضرة نرى الأورگ في الكـنائس وبعـض الأحـيان الساكـسيفـون أيـضاً مع العـود ـ الناي….
وفي كـنيستـنا يُـعـزَف عـلى الأورگ بمصاحـبة ــ الإيقاع بـشـدة صوت واضحة ــ تـقـلل من القـيمة الروحـية للموسيقى المرافـقة للصلاة فـتـبـدو وكأنـنا في قاعة حـفـلة من نوع آخـر لأن الإيقاع يحـرك أجـزاء جـسم الإنسان بصورة إيحائية …. هـذا من جانب ، وهـناك جانب آخـر لا يقـل أهـمية عـن الأول وهـو أن مراحـل القـداس عـديـدة أهـمها تـحـول الخـبز إلى جـسـد المسيح وهـكـذا الخـمر إلى دم المسيح كما في خـميس الفـصح / العـشاء الأخـير ، والـقـداس هـو إحـياء لـتلك الـذكـرى التي أوصانا بها الرب يسوع . في هـذه المرحـلة يتـطـلب أن يسود الصمت والسكـون في هـيكـل الكـنيسة ، ومن دواعي الخـشوع نرى المؤمنين يتهـيأون فـيسجـدون مع إنحـناءة الرأس بعـفـوية لا تـصَـنّـعـية ، وعـنـدها يتـلـو الكاهـن الكلام الجـوهـري !! وهـنا فإن الأجـراس تـرنّ لتـنبه المؤمنين إلى أن حـدثاً مهماً قـد حـدثَ . ولكـن عازف الموسيقى يـبـدو أنه لا يعـرف قـيمة هـذه الأمور لأنه شاب ! … فلا يتـرك الكاهـن يصلي لـوحـده في نـطـقه للكلام الجـوهـري بل يـبقى يرافـقه مع دنـدناته مما يجـعـل المؤمن السامع يتيه في تخـيلاته ، وبـدلاً من أنْ يـركــِّـز عـلى كلام الكاهـن فإنه ينـتـقـل إلى أجـواء أخـرى خارجة عـن الكـنيسة وبحـسب ما توحي له تلك المنحـنيات الموسيقـية .
وكم نـبَّـهـنا الكـهـنة وبعـض الشمامسة في كـنيستـنا فأيـدوا الفـكـرة !! ولكـن يـبـدو أنَّ أحـداً لا يتـجـرّأ عـلى إتخاذ ما يلـزم وكأنهم لا يملكـون حـق تـصحـيح المسارات الزائغة .
الأب فـيليـب هـيلاي يُشـجّـع زواج المُحـبّـين :
في سنة من سنوات نهاية الستـّـينات حـضرتُ قـداساً للمرحـوم الأب فـيليـب ومما قاله في وعـظه : ( إندهـشـتُ وتألـّـمْـتُ حـين سمعـْـتُ أنّ فـتاة مسيحـية تركـتْ بـيت والدها وإلتحـقـتْ بشاب غـير مسيحي والسبـب هـو أهـلها الذين رفـضوا زواجها من شاب مسيحي ! ) .
لقـد خـطب الأب خـطاباً حـماسياً بـين الحاضرين ونـدّد بكـل والـدَين يقـفان حـجـرة عـثرة في طريق زواج إبنـتهـما ومحـذراً لهم حـين قال : ( كل فـتى وفـتاة يحـبّان بعـضهـما البعـض فـليأتـيا عـندي وأنا أباركهـما وأعـطي لهـما شهادة زواج ) .
توقـعات الأب فـيليـب للكـنيسة في بعـض الدول :
في أحـد خـطابات المرحـوم الأب فـليـب في مطلع السبعـينات تطرّق إلى موقـع الكـنيسة في المجـتمع وقال : لا تـتوهّـموا وتـظـنوا أنّ الكـنيسة ضعـيفة بل إنها قـوية في كل زمان ومكان ، وإذا كـنـتم تعـتـقـدون أن دَورها قـد إضمحـلّ في بعـض الأماكـن من العالم فإن المستـقـبل سيشهـد لها إنـتصاراً هـناك ، وستـتـذكـّـرون كلامي يوماً ( وهـذا الذي حـصل فـعـلاً في 1989 ) .
بكاء أمام صورة العـذراء :
في أحـد الأيام من تلك الفـترة كـنت راجـعاً مع صديق من الجامعة فـمرَرنا من ساحة الميدان بـبغـداد ودخـلنا كـنيسة مريم العـذراء للأرمن ( كـنيسة قـديمة ) لزيارتها ، فـشاهـدتُ إمرأة مسلمة تقـف أمام صورة لمريم العـذراء وتـبكي بكاءاً حاراً بصوت خافـت والدموع تـنهـمر من عـينيها ، تألـّـمْـتُ لها كـثيراً ولم تكـن لدي الشجاعة أن أسألها ما الذي حـلّ بها .
العـطلة أقـضيها في ألقـوش :
وخـلال سنوات الدراسة في بغـداد كـنت أسافـر إلى ألقـوش في فـترات الأعـياد والعـطـل الصيفـية والربيعـية ومما لا شك فـيه أن الكـنيسة كانت هاجـسي فـلابد أن أتهـيأ لها قـبل السفـر ، فـكـنت أطلب كـتاب الرسائل أو القـراءة ( شليحا أو قـريانا ) باللغة الكـلدانية الفـصحى من الأب فـيليب ليوم الجـمعة فـقـط فآخـذه إلى بـيت عـمي المرحـوم جـرجـيس خـندي – في بغـداد – وأقـرأ أمامه كـل جـملة فـيفـسّرها لي بلغـتـنا المحـكـية وهـكـذا كـنت أتعـلـّـمه عـن ظهـر قـلب لأكـون جاهـزاً لقـراءته حـين أتواجـد في ألقـوش إلّا أنه لم يكـن هـناك تواصلٌ ولا ممارسة ، فـما أتعـلـّمه اليوم أنساه بعـد أيام أو أسابـيع .
وفي إحـدى السنين من أواخـر الستينات سافـرتُ صباح يوم جـمعة الآلام متوجّـهاً إلى ألقـوش وكل أملي أن أحـضر طقـوس هـذا اليوم الحـزين في كـنيستـنا إبتـداءاً من تفـسير آلام المسيح بكل مراحـلها وللإستماع أو للمشاركة في ( سْـليق لـَـصْـليوا أوْ مارا دْ ورْياثا … ) و إنزال المصلوب من الصليب ثم موكـب قـبر المسيح ( يا مَرْيَمْ بْـثولـْـتا شورَيْـوَتْ زخـْما ….. ) وما أنْ وصَـلـَـتْ بنا الحافـلة إلى البلدة ألقـوش حـتى أخـذتُ حـقـيـبتي وركـضتُ بها ورميتُـها في البـيت مستمرّاً وبنفـس السرعة إلى الكـنيسة متأكـّـداً مع نفـسي أن فـصولاً كـثيرة تكـون قـد فاتـتـني فـدخـلتُ الهـيكل المكـتضّ بالمؤمنين فـتسلـّـلـْـتُ حـتى وصلتُ مدرّجاته الأمامية ، وإذا بموكـب جـنازة المصلوب قـد إبتـدأ لتـوّه يتـقـدّمه رتل الشمامسة في حـلـّـتهم البـيضاء والمرسومون منهم حـول عـنـقـهم ( وورارا أسْـوَد ) وشموعـهم بأياديهم ويتـناوبون الترانيم الحـزينة مع الكهـنة والمطران ، وهـناك لمَحَـتــْـني عـينا المطران عـبد الأحـد صنا من بين الحاضرين فأشـّـر إلي بالإنخـراط في صفـوف الشمامسة ، فأشـّـرْتُ له بدَوري موحِـياً له بأنـني لستُ مرتـدياً رداء الشماس فـقال لي : ( لا كـْهـيما ، أورْ وْ مورْ خا قالا = لا يهـم ، أدخـل وقــُـل لحـناً ) فـكان كما أراد .
فـراسة الكاهـن والطبـيب :
في إحـدى العـطل الصيفـية وأنا في ألقـوش ( 1970 أو 1971 ) كـنت في بناية مار ميخا مع الأب يوحـنان نـتمشى سوية في أروقـته جـيئة وذهاباً نـتجاذب أطراف الحـديث من هـنا وهـناك و نـتـناقـش في شؤون الكـنيسة والحـياة ، ولما كـنت من النوع الذي يريد معـرفة الحـقـيقة من أهـلها كي أصِـلُ إلى قـناعة ذاتية وليس قـبول المَشاهـد الغامضة عـلى عـلاّتها ، فـقـد وضعـتُ نفـسي في موقـع الباحـث عـن الإيمان نـدّاً له في حِـواري معه فـشعـرتُ بأنه إستـفـزّ وإستـثارتْ أعـصابه وإنفـعـل بعـض الشيء ولكـنه أخـفى إنفعاله عـني ثم سألني : أتـؤمن بالمسيح ؟ قـلتُ : ( إن المسيح حـقـيقة واقـعة … ولا شك في ذلك ولـكـن مثـلي يريد أن يفـتح مـمرّاً في الـتـضاريس المتـعـرّجة سواءاً أكان نفـقاً أم جـسراً ، طويلاً أم قـصيراً يربط بـين إيماني وعـلميّـتي ) ! فإنشرح لجـوابي وقال : إن تلك المَهَـمّة أسهـل عـلى أمثالك من غـيرك ، ثم قادنا نقاشـنا إلى أن أقـول له أنّ الدخـول إلى أعـماق فـكـر الإنسان ليس بالأمر الهـيّن ، فـقال لي : إن الكاهـن أو الطبـيـب ذوي الخـبرة يُمكـنهـما قـراءة فـكـر الإنسان من النظر إلى عـيونه ! .
تحـليلي لكـلامه :
إن الكاهـن كـثير الإحـتكاك بالناس بكـلّ تـنوّعاتهم والتحـدّث إليهـم كما أنه يتعـرف على مشاكلهم وسلوكهم سواءاً بالإصغاء المباشر إليهم أو عـن طريق منبر الإعـتراف والإستماع إلى صوتهم الصريح النابع من قـلوبهم ، وهـنا يأتي دَوره في ملاحـظة خـطوط إنفـعالات الوجه وحـركات العـيون ليُـكـوّن منها خارطة تصبح عـنده دليلاً يقـوده إلى المواقـع المجـهـولة من فـكـر الشخـص الذي سيقابله غـداً ، ويتسلـّـل إلى أزقــّـته وثـناياه بعـد أن يكـون قـد حـصل عـلى المفاتيح السرية (Code Number ) لكـل حـركة من العـيون أو عـضلات الوجه مهـما كانت ضئيلة . ولكـن أين كـهـنة اليوم من كـل ذلك ؟ إن وعـظهـم البسيط – الذي لم يـعُـد يُـشْـبع خـيالنا ولا طـموحـنا بل ولا جـوعـنا – يكـتبونه عـلى الورقة ويقـرأونه في القـداس كالمذيع أمام المؤمنين بعـد الإنجـيل وهُـم اللذين درسوا الفـلسفة واللاهـوت وحـصلوا عـلى أعـلى الشهادات ، إن أكـثرهم عاجـزين عـن قـراءة أفـكارهـم الذاتية فـهـل يمكـنهم قـراءة أفـكار غـيرهـم ؟؟.