Articles Arabic

الحلقة الرابعة: بمناسبة مرور عشر سنوات على تولي السدة البطريركية لكنيسة بابل الكلدانية العريقة المسكينة

بمناسبة مرور عشر سنوات على تولي السدة البطريركية لكنيسة بابل الكلدانية العريقة المسكينة

وبداية انتهاء سقوط حكم الصنم من على عرشه البائس والمضطرب

 البطريرك ساكو الهارب من وجه العدالة

خنزير متوحش بري .. يأتي من اسطبلاني .. يهجم على السواقي .. ويخرب المراعي

 

صوتٌ صارخٌ في البرية

        عودة الابن الأكبر:

لقد كان الابن الأكبر محتجباً تماماً عن أحداث هذه الرواية، نعرف عنه من النص نفسه أنه كان الوريث الأول، يحق له بثلثي ميراث أبيه، لم ينفصل عن الشراكة الوالدية بعد قسمة الميراث وكان يعمل في الحقل بينما كان أخاه الأصغر يبدد ميراث والده. هو ليس بالضرورة إنساناً شريراً حسوداً، (فالنص لا يعالج مشكلة الحسد أو الشر الأخوي)، بل هو إنسان التزم بيت أبيه واحترم قوانين الإرث، يعمل في الحقول بيديه، علامة الاجتهاد للمحافظة على أملاك أبيه، يغضب إزاء نقص العدالة. هذه هي النقطة الأساسية التي يعالجها لوقا في هذا النص: (الفرق بين العدالة الإنسانية والعدالة الإلهية، والعلاقة بين العدالة والرحمة). (هل أن معنى العدالة يقتصر على التطبيق الأعمى لمبدأ ثواب البار وعقاب الخاطئ دون الأخذ بعين الاعتبار منطق المحبة والرحمة والإصلاح؟ هل العدالة هي ذات هدف انتقامي أو يحتل البعد التأديبي الإصلاحي مكاناً فيها؟).

يُبرز لوقا هنا الفرق بين عدالة الاب الذي قسم ميراثه بين ولديه (عدالة الشريعة)، وأعاد فتح ذراعيه لابنه التائب غافراً له الأذى الذي ألحقه به شخصياً وبعائلته كلها، ومفسحاً له مجال البدء من جديد في بناء حياة كريمة (عدالة رحومة تأديبية)، وبين عدالة الابن الأكبر الذي رفض فكرة إعطاء فرصة جديدة لأخيه لأنّه بدّد أمواله على الزواني وعليه أن يتحمل عواقب أعماله (عدالة انتقامية). الفرق بين الاب والابن الأكبر هي في النظرة الى مفهوم العدالة وفي القدرة على المحبة والمغفرة: الوالد أعاد ولادة ابنه من جديد إنسانياً واجتماعياً وروحياً، ولده الى حياة كريمة مرة أخرى، أما الابن الأكبر فاعترض ورأى في رحمة الاب انتقاصاً في العدالة.

من وجهة نظر إنسانية، لا بدّ أن نعطي الحق للابن فيما يقوله، إنما إذا نظرنا الى الابن الأصغر بعيني الوالد نفهم أن المكافأة الأعظم لوفاء الابن الأكبر هي “أن يكون مع الاب في كل حين” (15: 31) ومشاركته في علاقة محبة وطاعة، وإزاء هذه المكافأة الأعظم لا يصبح لأي مكافأة أخرى أي قيمة تذكر. الابن الأكبر الذي تمتع بمشاركة الاب في كل شيء لا يمكنه أن يفتش عما هو أدنى قيمة، عن “جدي يأكله مع أصدقاءه“.

ويتخطى الاب إظهار قيمة حياة الابن الأكبر ليدعوه الى مشاركته الفرح بعودة أخيه الى البيت الوالدي. ينقل الاب الابن من مفهوم العدالة الإنتقامية الى المنطق الإلهي للعدالة، العدالة التي تعانق السلام كما يقول المزمور، “فبالخلاص المسيحاني يتعانق العدل والسلام” (مز84: 11). يصبح الابن الأكبر مدعواً لا لقبول عودة أخيه فحسب، بل للفرح لقيامة أخيه من بين الأموات، يصبح الابن الأكبر مشاركاً لأبيه في خلاص أخيه الأصغر.

  • مثل يعكس صراعات يهودية- مسيحية وصراعات داخل الكنيسة نفسها:

يعكس هذا المثل صراعاً بين اليهود والمسيحيين، فسلسلة الأمثال هذه قد أُعطيت إثر قول الفريسيين: “هذا الرجل يرحب بالخاطئين ويأكل معهم” (15: 2)، فمنطق الأخ الأكبر يعكس منطق الشعب اليهودي الذي اعتقد نفسه أحق بالبنوة الإلهية من الذين يأتون من خارج الشعب اليهودي ويؤمنون بالمسيح، رأوا أنفسهم مستبعدين عن حق الأولوية فاعترضوا على منطق المسيح الذي يساويهم بالخطأة وبالعشارين.

والمشكلة الأخرى التي يعرضها هذا النص هي مشكلة كنسية داخلية، يطرح فيها فكرة إعادة قبول الخاطئين في الجماعة الكنسية بعد توبتهم: هل يمكن لمن عانى قسوة الاضطهاد وثبتوا، وحافظوا على وصايا الإنجيل وصلوا وصاموا وامتنعوا عن الشر أن يقبلوا فكرة مساواتهم بمن خان مواعيد عماده وسقط في أهواء الجسد والخطايا أو أنكر المسيح تحت وطأة الاضطهاد، ثم ندم وعاد يطلب المغفرة؟

هي مشكلة قديمة جديدة، منطق الفريسيين الأقدمين الذين استأثروا ببنوة الله قد انتقل الى الكنيسة الأولى، فصار من هم “أبرار” يحتقرون الأخ الساقط في تجربة أو في خطيئة. هي مشكلة كنيسة اليوم أيضاً، فكم من مسيحي يحتقر الآخر لزلة أو لخطيئة أو لوصمة في ماضيه؟ يرفض الاختلاط به ومصافحته، يرفض كونه مساوياً له وابناً مثله للآب السماوي؟

باسم العدالة نقتل إخوة لنا مرات كثيرة، وغالباً ما نعود الى المنطق القديم، منطق الفريسي المتكبر، المتعالي على العشار والخاطئ، الصارخ متذمراً: “يسوع هذا يقبل الخطأة ويأكل معهم“.

Follow Us