صوتٌ صارخٌ في البرية
الحلقة الثالثة
بمناسبة مرور عشر سنوات على تولي السدة البطريركية لكنيسة بابل الكلدانية العريقة المسكينة
وبداية انتهاء سقوط حكم الصنم من على عرشه البائس والمضطرب
البطريرك ساكو الهارب من وجه العدالة
خنزير متوحش بري .. يأتي من اسطبلاني .. يهجم على السواقي .. ويخرب المراعي
“ولكن أباه راه وهو ما زال بعيداً، فتحنن،…”. يتخطى جمال هذه الآية البعد الإنساني العاطفي، ويعكس بطريقة غير مباشرة دعوة العهد القديم لتوبة إسرائيل وعودته الى يهوه والده. وبحسب العهد الجديد: نرى في مثل الابن الضال عند لوقا، يُظهر بوضوح رغبة الله الوالد في عودة الابن، يجعل الابن هو صاحب المبادرة. أما في العهد القديم: الله الاب هو المبادر للبحث عن الابن ومناداته، (تكوين3: 9)، أو يرسل الله الاب رسلاً وأنبياء (اشعيا48: 16)، أو المبادرة من الطرفين على مفترق طرق (ملاخي3: 7). لكن في مثل يسوع فالأب يجلس منتظراً ابنه. لقد كان الله مستعداً للغفران منذ لحظة الانفصال، إنما كانت أساسية مبادرة الابن وتوبته، (لقد صار الابن الأصغر ابناً ناضجاً)، عرف أين تكمن الحرية الحقّة، فالحرية ليست التحرر من محبة الله، هي ليست عيش غوغائية الحياة وعشوائيتها، هي ليست الغرق في لذة المادة والاستهلاك، فالحرية الحقة وجدها الابن عندما عاد الى ذاته، عندما قرر العودة الى علاقة الحب الإلهي.
عندما وصل الابن الى حضن أبيه أعلن الندامة والتوبة، لم يقل حرفياً الكلام الذي أعده في السابق، لم يطلب من أبيه أن يجعله أجيراً، ففي فعل الندامة والتوبة ليس مطلوباً من الإنسان اتخاذ القرارات مكان الله، (الله يطلب التوبة والإنسان يعلن الندامة ويضع نفسه بين يدي أبيه السماوي كما ارتمى الابن الأصغر بين يدي أبيه)، المطلوب هو الندامة، والاتكال على رحمة الله والثقة بمحبته المطلقة ومغفرته غير المشروطة. رغبة الابن كانت أن يقبله الاب أجيراً بين خدم عديدين، أما جواب الاب فكان من نوع آخر، أنقذه من حالة العبودية التي أوقع نفسه فيها وأعاده الى مكانة الابن والوريث.
-
هذه العودة الى حالة البنوة تتمثل بثلاث أعمال ذات قيمة رمزية: إذ ترتبط بالسلطة والقيمة الاجتماعية:
v اعطاء الثوب الفاخر.
v الباس الخاتم.
v إنعال القدمين بحذاء.
الثوب الفاخر الذي يُعطى للابن هو: “الثوب الأول“، والى جانب معنى الثوب كرمز للكرامة الملوكية وللنبالة، فإن هذه الكلمة تشير الى رغبة الاب بإعادة الابن الى المقام الأول الذي كان يملكه، أعاده الى مكانه الأول، صار ابناً من جديد، ولم يعد متمرداً وغريباً.
والخاتم هو: “رمز السلطة“، فهو إشارة مرئية لانتماء الابن الى العائلة، لأن الخاتم غالباً ما يحمل رمز العائلة، إنما هو خاصة (علامة للمشاركة في السلطة الابوية)، فالخاتم هو الختم، به كان يُصار الى مهر الرسائل والصكوك والمعاملات والمعاهدات في العالم القديم. لقد أشرك الاب ابنه الأصغر بإدارة بيته، أعطاه الحرية الحقة، حرية المشاركة المسؤولة، لا الحرية الوهمية التي بحث الابن عنها في السابق بتبديد أمواله كلها. وظيفة الابن الآن هي المحافظة على ما هو لبيت أبيه، بهذا يصبح إنساناً حراً.
أما الحذاء فهو: عنصر يستعمله لوقا ولا نجده في نصوص العهد القديم، وهذا لكون الحذاء يحمل رمزية ثقافية يونانية رومانية لا يهودية. (الحذاء ينتعله المواطن الحر)، أما العبد فيسير حافي القدمين. الابن كان حافي القدمين، أوصله فقره الى مصاف العبيد، باع هويته ليبقى على قيد الحياة. بعودته الى الاب عادت الى الابن حريته المفقودة.
لقد أمر الاب بذبح العجل المسمن: يهدف لوقا من خلال تفصيل الثور المذبوح الى التلميح الى (بعد الفرح الخلاصي الذي كان يتم في حضن هذه العائلة)، فالثور يُذبح للفرح وللاحتفال: “وأخذوا يفرحون” (15، 24)، صورة للعرس المسيحاني الذي يتم حين عودة الضال وتوبة الخاطئ، كما يرد في المثلين السابقين: الخروف الضائع والدرهم المفقود. هو فرح الرب بقيامة الابن الميت وعودته الى الحياة ومشاركته من جديد فرح البيت الوالدي.