اتفق العرب على أن لا يتفقوا، ولكن، اتفق العراقيين في شعورهم بخيبة أمل من تدمير الصورة الزاهية والجملية التي كانت في اذهانهم عن المكون المسيحي. لم يعد مسيحيو العراق تلك الوردة الجميلة في بستان العراق. المكون الطيّب والمسالم الذي يسامح ويعفو لا خوفا أو خنوعا، بل تكابرا على الاهانات نُبلا وشهامة. لقد خسر مسيحيو العراق اعجاب العراقيين ومحبتهم وصاروا يسمعون عبارات: أنتم هم مثل جماعتنا، انتم اتعس من جماعتنا. انتم نفر ونص وطلايبكم واصلة لأبو موزة. كلنا بهل الحالة يا خالة، فساد وفضائح. صراع على الزعامةِ بين رجال الدين والسياسة.
الكارثة لا تتوقف هنا عند هذا الحدّ، بل تعدّت لتُصبح عوقا واعتلالا أصاب المسيحيون أنفسهم. فصراعات الزعامات على السلطة والامتيازات المعنوية والمادية فرّق المسيحيون وصاروا يتصارعون إلكترونيا ويتلاسنون من وراء الشاشات بعنف ويفتكون بعضهم بعضا بضراوة. متعصبون عميان لا يرون كلَّ الحقيقةِ، ولا يرغبون سماع الجانب الآخر من القصّة. صار الدفاع عن الأشخاص أهم من الدفاع عن القضية، والبحث عن الكرامات الشخصية أهم من الحقوق.
والمحزن المبكي هو بيانات وخطابات رجال الدين أنفسهم، والذين ينظر إليهم الناس أنهم طبقة مثقفة وحملة شهادات عالية، ولهم خبرة في الدبلوماسية والتعامل مع الازمات وإدارة الصراعات ومد جسور المصالحة، لقد فضحوا أنفسهم أنفسهم في هذه الأزمة، أنهم يجهلون القانون والنظام وأبسط الأعراف الدبلوماسية في المُخاطبات الرسمية، فتحولوا إلى ناشطين في منابر إعلامية شعبوية تافهة المضمون، وعكسوا في تصريحاتهم واحتجاجاتهم لفوضى الاعلام والإدارة التي تعاني منها الكنيسة، فموقع الكنيسة الرسمي لم ينشر إلى اليوم موعظة أو تعليما لاهوتيا أو حتّى صلاة، بل صار كله مخصصا لصراع الزعيم، وتطيب مشاعر الزعيم الذي يرتاج نفسياً لكل خطاب وبيان وكلمة تدافع عنه، حتى لو جاءت من مَن هم على قائمة الارهاب. فلا سياسة إعلامية، ولا منهجية في المناقشات، وليس لهم حجج منطقية في الحوار، ولا استراتيجية في التعامل مع الأزمات، من دون عنف لفظي. بالحقيقة هم بحاجة إلى تلك سماع المقولة الشهيرة التي تقول: “عندما تقف بعوضة على خصيتيك، حينها فقط ستدرك أن هناك طريقة لحل المشكلات دون عنف”.
كيف يُمكن لرجل دين أن يتلفظ أو يكتب عبارات مشحونة بالكراهية والعداوة؟ مَن سيسمع لكم إذا كنتم تشتمون وتلعنون وتخونون مثل باقي الناس؟ هل يقبل ضميركم ان تزرعوا الخوف في قلوب الناس وتثيروا الرعب فيهم وتتهمون رئيس الجمهورية بأنه مثل داعش الذي سلب واغتصب وسرق وقتل وخطف؟ أو أنه جاهل في القانون والدستور؟ وأن الزعيم متفضلٌ عليه بأنه طلب من أحد الكهنة عدم تقديمه إلى المحاكم البريطانية؟ والمُشكلة أن الزعيم يُصدِق نفسه، وهناك مَن يُصفقِ لهذه الخزعبلات؟ كيف تزيفون الحقائق وتحولون قضية صراع شخصي على الزعامة، لتروّجوا للعالم أنها قضية مصير مسيحيي العراق، متجاهلين بقية الكنائس بحجة أنكم الأغلبية؟
وبالعودة إلى حوارات الكتّاب المسيحيين المدافعين عن طرف ضد آخر، فهي الآخرى تعكس حجم الكارثة الأخلاقية الفاضحة التي أصابت مسيحيو العراق. حوارات عنيفة وجارحة وتافهة وتخلو من اللطف والود وتفتقر الى ابسط قواعد الحوار الانيق. كتّاب يشتمون بعضهم بعضنا البعض بوحشية، مع أنهم مسيحيون يؤمنون بالغفران والمسامحة، ولكنهم لا يُباولون حتّى في الطعن في شرف الآخرين، فكتب أحد المدافعين الشرسين عنواناً: “أعطيني شرفك وأعطيك ساعة تعرف بها وقت اغتصابِك”، هل هذا هو خطاب كاتب مسيحي يدافع فيه عن كرامة رجل دين بالحط من كرامة وشرف إمرأة مسيحية؟ وكيف سمَح رجل الدين نفسه لهذا الكاتب أن ينشر مقالاً مثل هذا عن مؤمنة مسيحية مهما كان سلوكها؟
قراءة سريعة لما يدلوا به الكتاب أنهم ناشطون من أجل أشخاص لا قضية لهم. كتاب يخونون كلّ مَن لا يوافِق آرائهم مواقفهم، ويُلصقون تهما جزافا لا أساس لها بحق الآخرين، للدفاع عن شخصيات تريد الزعامة مهما كانت التضحيات، ولن تتراجع عن عنادها ومواقفها، حتّى لو هلكت الأمة، بل طزّ بالأمة كلها، كلّ ذلك من أجل زعيم دفعَ بالرعية للتظاهر في ساحات وشوارع المدن، فيما جلسَ في قصره تحت المكيف يشاهد مؤمنيه وقد صاروا فرجة للعالم.
أدعوكم جميعا، الكتاب الموقرون، والمتحمسون والمتمردون على كلِّ شيء، أدعوكم إلى التفكير للحظة واحدة، والجواب على السؤال: “مَن يتحمل المسؤولية خسارة مسيحيو العراق مكانتهم الاجتماعية في البلاد؟ مَن الذي شوّه صورتهم الجميلة الزاهية، ولمصلحةِ مَن يحصل الذي يجري الآن؟ أوَّ ليس في الأمة مَن يُبادِر ليوقِف هذا السباق نحو الهاوية؟ ومَن الذي سيتقدّم ويتنازل حُبا بالمسيحيين؟
ستقولون: مَن يتحمّل أسباب وتبعات هذه الأزمة هم سياسيونا وقادة الأحزاب المسيحية التي نشطت على الساحة السياسية والاجتماعية منذ 2003، والذين يبحثون علن السلطة والكرسي والامتيازات. وهذا صحيح ولا يختلِف عليه اثنان. هم دخلوا العملية السياسية القذرة والفوضوية والتي وضعت المصالح الفردية والعائلية والحزبية أولوية لها، فهذه هي السياسة مثلما يقول تشرتل.
تحالفات أحزابنا المسيحية كلّها مع الأحزاب الكبرى للوصول الى قبّة مجلس النواب، وجميعهم، بلا استثناء استخدم نفس الأساليب والتكتيكات الانتخابية، وظفرَ بها اليوم شيخٌ ابتسم له الحظ عرِف أن اللعبة السياسية في العراق يجري التخطيط لها بين الحراس والمُطلعين، وما العراق إلا ملعبٌ ولعبة كرٍّ وفرّ، واللاعبون كثار على مقاعدِ الاحتياط ويجري تبديلهم وفق ضوابط يُحددها الفقيهِ بالشأن العراقي.
هنا، كان على رجل الدين أن يكون أكثر حكمة وفطنة، وألّا يدخل العملية السياسية القذرة، بل يواصل مراقبة الأوضاع عن بُعدٍ ولا يتورط مع جهة بالضد من جهة أخرى. كان عليه أن يتجنّب الظهور الإعلامي مع أي شخصية حزبية أو سياسية في الحكومة، وأن يمتنع عن مقابلة حتّى مسؤولي الدولة الكبار، حتّى لو توسلوا زيارته، ويتعلّم من مرجعيات المسلمين الاعتناء بالرعية ورفض مقابلة رجالات الحكومة، لئلا تتشوه صورة المرجعية من جرّاء أداء السياسي وفسادهِ.
رجل الدين هو الذي يتحمل المسؤولية عمّا حصل لنا، لأنَّ الناس تتوقع أن يكون أكثر صدقا مع ذاته، وأكثر نزاهة في تعاملاته، وأكثر اطلاعا وثقافة، وأكثر تسامحا، بل جسر سلام للمُصالحة بين الفرقاء، لا أن يكون طرفا في النزاعات، وقصّة إعلامية وموضوع اختلاف بين أبناء المكون الواحد.
لست في موقف أنتقدُ فيه أحدا، ولا ابحث عن مَن يوافقني الرأي أو يُعارضني، إني أريد أن نصحو جميعا من سذاجتنا وجهلنا ونحرر انفسنا من الذين يستغفلوننا، ولا نسمح لهذا أو ذاك من الزعماء أن يستهزأ بعقولنا ويستخفَّ بمشاعرنا، والمسيحية في العراق لن تموت بإهانة هذا الزعيم أو ذاك والذي تناسى كلمة ربه: “طوبى لكم إذا شتموكم واضطهدوكم وافتروا عليكم كل كذب من أجلي…”. عليه أن يتذكر أنه يحمل صليب المسيح، لا الصليب يحمله، فلا يبحث عن زعامة باسم الصليب.
أللهُمَّ اشهد أني بلغّتُ.
وللحديث بقيّة.