د. فراس لوقا
انقسمت الناس وتصارعت فيما بينها، بين مدافع عن البطريرك وآخر متهجم عليه، ولم يتوقف أحدٌ ليسأل: مَن الذي يحصل في الخفاء؟ ولما كل هذه الجلبة؟ ومَن يقف وراءها؟ وما هي الرسالة التي تُريد الحكومة أن توجهها للبطريرك، ولمَن يُعارضها؟
لا يختلِف اثنان على أن الظهور المتكرر للبطريرك في الاعلام، وهي ظاهرة غير مسبوقة وغير مألوفة من قبل رجال الكنيسة من الذين سبقوه، جعله عُرضة للنقدِ السياسي والإعلامي. وإذا احتج: أنا لست سياسيا، ولكن لي كلمة في السياسة، فهذا كلام باطل. كثرة التصريحات الإعلامية وغزارة المقابلات التلفزيونية، والاجتماع بشخصيات وأحزاب سياسية والجلوس معهم حول طاولة واحدة، يجعله وجهاً إعلامياً سياسياً، يدافع عن حكومة كانت صديقة له، كما فعل عندما ساند إعلاميا رئيس وزراء جابه مظاهرات تشرين بالسلاح، ثم عاد وركبَ موجة المُظاهرات في ظلِّ استغراب الجميع من هذه السلوكيات. وفي لقاءه الأخير، صرحَّ بأنه ليس سياسياً، ثم عادَ في خاتمة اللقاء يدعو جهةً سياسية للعودة إلى الحكومة لخلق حالة من التوازن السياسي في إدارة الدولة، أوليسَ هذا تدخلاً في السياسية بشكل صريح؟
البطريرك اختار أن يكون أمام الشاشة وفي الاعلام كل أسبوع تقريبا، وبالتالي فهو مُعرضٌ للنقد من شخوص لن يتفقوا مع مواقفه، وآخرون يقرؤون في تصريحاته تهديداً لمكانتهم وسلطتهم، فيما يستغل غيرهم القضايا التي يطرحها في الاعلام لتحقيق مكاسب سياسية في مواجهة خصومهم. اختياره للإعلام لم يكن صائبا كما ولم موفقا في تصريحاته، ويبدو أن ليس له مٌستشارين يُقدمون له النصيحة، وعليه اليوم أن يعترف أنه يتحمل المسؤولية فيما وصلت إليه الأحداث، والاعتراف بالغلط فضيلة.
قضية المرسوم الجمهوري هي باطلة من الأساس، وهي حدث إعلامي فيه رسالة صريحة للبطريرك. فهذا المرسوم، أو الفرمان أو الطغراء، هو من بقايا عهود عانى فيها المسيحيون الأمرين وخسروا الكثير من أبناء الرعية بسبب فرض الجزية التمييز المُمارس ضدّهم ذميّة، فكان على بطريركهم أن يجمعها لبيت المال وهو صاغر. البطريرك يعرِف هذا التاريخ جيداً كما يعرِف كوراث الدولية العثمانية ضد المسيحيين. وإذا كان الحجة أن هذا صار عُرفاً، فلا ضيرَ من تغيير الأعراف إن كانت لا تتوافق مع حقوق الإنسان، فالعبودية كانت ولفترة طويلة عُرفا وعادة مقبولة، وإذا كان المرسوم والفرمان أو الطغراء يمنح البطريرك صلاحيات وسلطة على الرعية وتنظر إليهم الحكومة نظرة دونية، أهل الذمة، فعليه أن يكون أول مَن يرفض هذا المرسوم، وليس رئاسة الجمهورية وألغت هذا العرف، وحافظت على مكانة البطريرك وعلى كرامة المسيحيين، ورفضت أن تُصدِر مراسيم لرؤساء كنائس أخرى، فجميع رؤساء الكنائس سواسية أمام القانون.
أسلوب وتوقيت سحب المرسوم كان مدروساً فجاء عقوبة بحسب قول البطريرك، وفيها رسالة له شخصيا. فالرئيس شعرَ بالإهانة عندما لم يُقابله البابا في الفاتيكان، وهي زيارة كانت مُبرمجة مسبقا وكان بإمكان الرئيس أن يزور البابا في المُستشفى ليطمئنَ على سلامته، ما لم يكن هناك سببٌ آخر يجعل الفاتيكان يتحجج بحالة البابا الصحية، وهي احترامهم للبطريرك الذي طلب من الفاتيكان عدم مقابلة الرئيس بسبب اصطحاب الرئيس لشخصية رشحها البطريرك ودعم حملتها الانتخابية ماليا ومعنوياً، ولكنها اختلفت معه لأنها عرفت أن تقرأ الوضع السياسي المعقد في العراق، واختارت أن تكون متحالفة مع الشيخ الذي هو جزء من إدارة الدولة.
المُشكلة هي في الحقيقة؛ الصراع على الزعامة؛ ومَن الذي يقود الملف المسيحي.
كلّ الاحزاب السياسية المسيحية في العراق كانت ومازالت تنتقد منذ سنة 2003 تدخل رجال الدين المسيحيين في الشأن المسيحي العراقي، وتقديم أنفسهم ممثلين عن مسيحي العراق، ويتجاهلون أن للمسيحيين أحزابٌ وممثلون في مجلس النواب، وهم الأحق بتمثيل المكون المسيحي، ولا يجوز للحكومة التعامل مع رجال الدين كممثلي المكون المسيحي مهما كان دور النواب ضعيفاً. وإذا تعاطفت أحزابٌ ومكونات مسيحية اليوم مع البطريرك، فهذا لأنها خسرت مقاعدها الانتخابية، فهي التي كانت تعترض وبقوّة على تدخل رجال الدين المسيحيين في الشأن السياسي، ومازالت تصريحاتهم موثقة في الشبكة العنكبوتية مواقع التواصل الاجتماعي.
البطريرك يُقدِم نفسه للعالم رئيساً وناطقا رسميا باسم المسيحيين، وهو ما ترفضه الكنائس المسيحية في العراق، والتي عبرت عن رفضها لأداءِ البطريرك من خلال بقاءها متفرجة على الأوضاع، لأن البطريرك أرادَ أن يكون رئيساً على مجلسهم الاستشاري، وعندما رفضوا ذلك، فسحبَ الكنيسة الكلدانية من مجلس رؤساء كنائس العراق منذ سنوات، بحجة أن الكنيسة الكلدانية هي الأكثر عددا ويجب أن ترأس هذا المجلس.
هناك انزعاج حقيقي من قادة البلاد من السياسيين من الظهور الإعلامي المتكرر للبطريرك وتكرار أسطوانة رئاسة المسيحيين، ودعم أمريكا وأوربا له، ومكانته المرموقة في الفاتيكان، والتي لم تتدخل الفاتيكان في هذا الصراع، ولن تتدخل بسبب سوء تقدير البطريرك للواقع السياسي، وإصراره على مواقف أقلَّ ما يُقال عنها أنها غير واقعية إن لم تكن غير مدروسة.
قادة البلاد يعرفون أن البطريرك اختار أن يكون واجهة إعلامية لجهات سياسية لا يتفقون معها، ليخوض الصراع عنهم بالوكالة، مُصراً على ربط مصير الكنيسة بمصيره هو، ويُعلِن أن ما يجابهه من أزمات هو حربٌ على مسيحي العراق، ويرفض أن يسمع لبقية رؤساء الكنائس الذي يقولون له: لا تتحدث باسم مسيحي العراق، أنت رئيس الكنيسة الكلدانية فقط، ولا تتجاهل حضورنا فنحن 13 كنيسة.
كان على البطريرك، وهو صاحب شهادات علمية عالية ومن جامعات مرموقة أن يكون مرجعية دينية أولاً ويتعلّم من المرجعيات الدينية في العراق تجنّب الظهور الإعلامي المتكرر، والاكتفاء ببياناتٍ مهنية ودقيقة في التعامل مع قضايا مصيرية حاسمة، كان عليه ألَّا يُصرح في كل صغيرة وكبيرة، محافظاً على هيبة الكنيسة ومكانتها التي صارت مصدر استرزاق للقنوات الإعلامية التي تبحث عن أزمات وتختلِق أزمات ليكون لها مادة إعلامية تسوّق بها أجنداتها السياسية فلا يوجد في العراق اعلام مستقل بل كلّه مدفوع الثمن.
سحب المرسوم هو رسالة صريحة للبطريرك من الدولة: أنت رئيس كنيسة، وهي واحدة من 14 كنيسة مُعترف بها في العراق، فلا تجازف بمصير المسيحيين في العراق فأنت لست مُمثلاً عنهم جميعاً، وحتى لست ممثلا عن جميع الكلدان في العراق. ننصحك بالابتعاد عن الشأن السياسي، فهو ساحة قذرة لا تليق بمكانة الكنيسة، ولست قادرا على مقارعة السياسيين، فلا تحاول التدخل في منهاج وأسلوب إدارة الدولة. اِعرف مكانتك وحجمك.
نحترمك لمكانتك الدينية، ولكن إذا أردت ان تدخل الصراع السياسي، فعليك أن تقبل بقواعد اللعبة السياسية في العراق، وإذا قررت المغامرة وعدم التراجع عن مواقف السياسية، فنذكرك بما حصل سنة 2003 عندما رفضَ الدكتاتور التنحي حُباً بالعراق، من دون أن يعرف أنه سيجلبُ الويلات على الشعب والعباد.
مَن بغداد، أقول، أللهُمَّ اشهد أني بلغّتُ.
وللحديث بقيّة.
الموضوع بأختصار ان الأثوريين دخلو الى العراق بمساعدة الأنكليز بعد تعرض المسيحيين جميعاً للأبادة الجماعية في تركيا عام 1917 ، فحاول الأنكليز الذين كان العراق حينها يخضع لسيطرتهم، اقناع اهل الموصل بالتحول الى الأشورية لكنهم فشلوا في ذلك، وبمرور الوقت تمرد الأثوريون على الحكومة العراقية عام 1933 وطالبوا بقيام دولة اشورية او حكم ذاتي اشوري لهم، وتم طردهم من العراق، فلم يبقى منهم سوى العدد القليل جداً ربما لا يتجاوز المئة نسمة، ثم جاء سقوط العراق عام 2003 وحاول الأنكليز اقناع الأكراد بالتحول الى الأشورية، الا انهم رفضوا التخلي عن قوميتهم الكردية، فلم يبقى امامهم سوى الكلدان بالدرجة الأساس لكونهم يمثلون الأكثرية بين المسيحيين مع السريان لأقناعهم بالتحول الى الأشورية واخضاعهم لسيطرتهم وهم يحاولون اتباع شتى الوسائل الملتوية والخدع معهم، فحاول يونادم كنا بالتعاون مع الحاكم المدني بول بريمر منذ البداية أدراج التسمية الأشورية في دستور الدولة دون القومية الكلدانية، ثم جاء دور البطريرك موشي وهو يتبع شتى الوسائل والخدع لأخضاع الكنائس المسيحية وجميع المسيحيين من كلدان وسريان وارمن وغيرهم والمقيمين في سهل نينوى والشمال العراقي لسيطرته، وربما اراد استغلال المرسوم المرقم ( 147 ) لكي يقنع الحكومة بدفع الجزية لخزينة الدولة ويخضع المسيحيين جميعاً لسيطرته، وربما تكون فكرته بأنه بعد تحقيق هذا الهدف سوف يكون قادراً على المطالبة بأقامة حكم ذاتي اشوري، حتى لو تطلب الأمر تعريض المسيحيين جميعا للأبادة الجماعية، ولكي يتمكن من ادخال جميع اثوريي الخارج الى العراق ثانية والمطالبة بدولة أشور وطرد الكلدان والسريان منها بعد ذلك
تحليل قيم ونصيحة قيمة ،
منذ اندلاع العاصفة لم اقراء شيئ رشيد سوى هذه المحاولة القيمة وعلى جميع المسيحيين التفكير بهذه الطريقة عوضا عن
تقسيم البقية الباقية من المسيحيين وتحويلهم الى مادة قابلة للاحتراق في الصراعات الطائفية المتحكمة بالعراق والمنطقة
الوجود المسيحي تم استخدامه في كافة التحولات الجيوسياسية التي عرفتها بلدان الشرق ، والشرق الاوسط مقبل على تحولات كبيرة خلال السنوات القليلة القادمة ،العراق ومسيحي العراق سيتم استخدامهما مجددا في اطار هذه
التحولات على سبيل المثال مشاريع الرئيس الرئيس اردغان وطموحاته في اعادة النظر بالاتفاقات والبروتكالات الناجمة عن الحرب
! الاولى ، ورغبة تركيا باسترجاع هيمنتها على كردستان العراق وسوريا
تم قبل ايام تعيين مطران جديد في توركيا هو مطران الجالية الكلدانية المقيمة في اطراف باريس ،وكانت مراسيم تعيينه تتميز باهتمام الاوساط
!الكنسية والسياسة الخفية من خلف الستار ، هيبة المراسيم تدل على تهيئة الاجواء لقبول تركيا يوما ما كعضو في الاتحاد الاوربي
ازمة الكنيسة الكلدانية المفتعلة ليست ببعيدة عن الترتيب للتحولات القادمة.
شكرا لكاتب المقال وشكرا لصحيفتكم