المقدمة : نشكر شخصياً الدكتور عبد الله رابي لأنه أتاح لنا فرصة كبيرة جداً لدراسة كل المتعلقات التي استند إليها الدكتور ونقارن ما جاء به ( كتابياً ولاهوتياً انسانياً وتاريخياً ) وتأثير هذه النظرية عليها . لقد تطرقنا في الجزء الأول إلى واقع تلك النظرية في المفهوم الإسلامي ونظام دولة الفقيه ومصادر نشوئها وبمن تأثرت وسببت إخراجها والعمل عليها وهي : ان هذه النظرية جاءت من خلال نظرة الباحثين المسيحيين ما يطلق عليهم مؤسساتياً ( القديسين ) والتي ظهرت أبان الحكم المشترك بين المؤسسة الكنسية والمؤسسة السياسية الحاكمة وبهذا الاتحاد أعلنت المؤسسة الدينية ولائها الكامل للمؤسسة السياسية كحاكم ثاني والغاية اخضاع الشعب إلى قداستين ( مؤسساتية روحية ومؤسساتية سياسية ) وكلما التزمت المؤسسة الدينية بهذا الشرط كلما عاشت عصورها الذهبية وكلما خرج من تلك المؤسسة قائد يحاول الفصل بينهما كلما تعرض المؤسساتيين الدينيين للاضطهاد ( هذا الصراع قديم بين النظام الكهنوتي والنظام الإداري للدولة ) وقد شهدنا هذا الصراع منذ الأمبراطورية الكلدانية بقيادة ملكها السادس حمورابي وكهنة المعابد في تحديد سلطتهم على الشعب عن طريق ( القداسة المؤسساتية او الكهنوتية ) مما افرز قانوناً ( قانون حمورابي او شريعة حمورابي ) التي حدد فيها صلاحيات تلك المؤسسات بعد ان استفحل نفوذها بحيث باتت تخرّج قوانينها الخاصة لقيادة الدولة إذاً فهذه النظرية استكملت رحلتها في جميع مراحل الحياة المجتمعية لتصل إلى ( مسيحية القرون الأولى والوسطى إلى المنهج الإسلامي ليكون قاعدة أساسية للقيادة الكهنوتية فيها ) …. ولا ننسى ان المؤسسة الدينية ( مؤسسة الكهنة ) وفي كل تاريخها كانت تتحيّن الفرص للانقضاض على الدولة كلما ضعفت الدولة لتصبح هي القائد الأعلى للمجتمع … وتكلّمنا عن فلسفة تلك النظرية في المفهوم المؤسساتي الديني . والآن آن الأوان لنسبر تاريخية هذه النظرية في الفلسفة الدينية للكتاب المقدس وكيف نظر الكتاب المقدس لها وما هو تقييمها .
اولاً : العهد القديم سفر التكوين : عندما انتهى الرب الإله من جميع اعماله لتخصيص بيت مناسب ( الأرض كواحدة من تشكيلات الكون ) لخليقته الجديدة ( الإنسان ) . وضع الرب الإله قانون لتحديد الصلاحيات في هذا المسكن وضمّنه قانون يلتزم به سكنة هذا البيت ان اوجد فيه ( شجرتين لامتحان الولاء … شجرة الحياة الأبدية وشجرة معرفة الخير والشر ) ومن خلال هذا القانون ألزم الرب الإله ذاته لعدم التدخّل في ( حريّة الإنسان في الاختيار ) ومن هنا ظهر مفهوم الإنسان ( المخيّر وليس المسيّر ) ومن خلال هذا المفهوم أُلزِمَ الإنسان بمواجهة مصيره ( تقرير المصير بالمشيئة ) وبالتالي اخضاعه للمحاكمة ( الدينونة ) وبهذا تتحقق عدالة الله وقد شهدنا ذلك من خلال تسلسل الأحداث في الملكوت لحد اختيار الإنسان العيش خارج كنف الله باختياره وبحرّية مطلقة فما كان من الله إلاّ ان يحقق عدالته بسبب الاختيار الحر للإنسان فَطُرِدَ الإنسان من بيت الله او ( الله خرج من حياة الإنسان ليترك بيته بدون نعمته وبركته أي ” خراباً ” ) إذاً الشرط الوحيد او القانون الوحيد الذي وضعه الرب الإله للإنسان هو ( معرفته والعمل على تحقيق مشيئته وبالتالي حصول الله على ولاء الأنسان الكامل والمطلق ) إذاً :
1 ) لا وساطات ولا شفاعات بين الله والإنسان لكون الوساطات تسقط مبدأ الولاء إلى الله وحده لا شريك له فتجعل من ( علاقة الإنسان بربه علاقة تمر من خلال إنسان آخر او مؤسسة ) وهذا مخالف لفكر الله وهذا ايضاً ما أكّده السيد المسيح عندما رفع حاجز عبادة الشريعة والمشرفين عليها إلى علاقة مباشرة مع الله الذي يشكّل صورة ( الأب ) الذي لا يحتاج لوسيط او شفيع بينه وبين ابنه ( ابانا الذي في السماوات … ) فأبناء الله وسيطهم وشفيعهم هو الله الواحد الأحد وحده لا شريك له .
2 ) هذه النظرية تسقط حق الله في الدينونة فتعطّل عدالته لأنها تخضعه لدينونة الإنسان قبل الله وبهذا فهذه النظرية تعتبر من ( نظريات الشرك بالله لأنها تجعل من الإنسان حكماً مع الله فترفع الإنسان او المؤسسة إلى الألوهية وتدنس بذلك ألوهية الله ) .
وهناك الكثير من المفاهيم التي تفنّد هذه النظرية في ( العهد القديم ) لكننا اكتفينا بواحدة فقط .
ثانياً : العهد الجديد كلمة الله الرب يسوع المسيح :
1 ) بالإضافة إلى ما استشهدنا به في اولاً ( 1 ) سنستشهد بنص يخافه الكثيرون ويرتعب منه أصحاب هذه النظرية لأنها تسقطهم ( وهنا فالسيد المسيح يؤكد على مؤمنيه ان لا سيد ولا رب ولا معلم غير السيد الإله ولهذا أوصى شعبه ان لا يتداولون تلك الصفات لأنها صفات الله وكلمته فقط … ) وبهذا فنظرية السيادة والتبعيّة للسيادة تسقط هنا .
2 ) مفهوم ( الخدمة في فكر السيد المسيح ) : ان مفهوم الخدمة في فكر السيد المسيح واضح وبائن جداً فالذي يرغب ان يكون الأعظم فليكون اصغر خادم لشعب الرب يسوع المسيح ( وبذلك تتساوى الرؤوس ) فلا سيد غير الرب والجميع يقعون في حقل ( خدمة شعب الرب ) لأن الرب اول من جسّد هذا المفهوم من خلال حياته مع الشعب ( عملياً ) اما تلك النظرية فتجسد التقسيم الاجتماعي للمؤمنين فتجعل منهم ( رعاة او خراف .. !! ) أي ان هذه النظرية تلغي مفهوم ( اعمال العقل أي تشغيله ) ويبقى العقل البشري مرهون بالراعي الذي هو شخص او مؤسسة .. وهنا فهذه النظرية تبشر ( بالمرجع والمرجعية ) بشكليها ( الديني والسياسي ) فتلغي ( الخصوصية المهنيّة ) . وهذه النظرية تؤمن بمفهوم ( الطبقية المجتمعية ) أي تقسيم المجتمع إلى طبقات ايمانية تبدأ من الرأس المؤسساتي لتنتهي بـ ( خراف الحضيرة )
ثالثاً : ارتباط النظرية ببعض المفاهيم الحزبيّة : بالتأكيد هذه النظرية لها ارتباط كبير ببعض الأحزاب الدكتاتورية التي مرّت على حياتنا المجتمعية والتي لا تزال تتجذّر في مجتمعاتنا الشرقية خاصة لتفشي التخلّف المجتمعي فيها … مثلاً شعار ” نفّذ ثم ناقش “ وفي بعض الأحزاب وخصوصاً الدينية منها ” نفّذ ولا تناقش “ وهنا تظهر مركزيّة القرارات وتبعية الأعضاء للقادة وعدم السماح بمخالفة تبعيّتهم لها والمخالف يجب ان يحكم عليه وهنا تمارس الأحزاب على افرادها ( الولاء المطلق فتلغي العقل وحركته وتجعل الإنسان مطيّة له ) ومن قوانين تلك الأحزاب ان العضو عندما يفكّر بترك حزبه فأنه يخضع لرقابة شديدة للإيقاع به ثم يحكم عليه بالإعدام وهذا مأخوذ من الفقه الإسلامي ( حكم الردّة ) .
في الجزء الأخير سنقدم خلاصة دراستنا هذه بالإضافة إلى السؤال الذي أدى بنا لتسجيل هذه الدراسة مع الإشارة إلى من هم ( المرضى النفسيون ) وما هي مواصفات المرض النفسي …
الرب يبارك حياتكم واهل بيتكم
اخوكم الباحث في الشأن المجتمعي السياسي والديني والمختص بالمسيحية الخادم حسام سامي 22 / 5 / 2021