صبحي توما السناطي
جاء في وسائل الاعلام تأكيد قداسة بابا الفاتيكان زيارته الى العراق خلال 5–8 اذار القادم، ويختتم زيارته هذه لسهل نينوى
الثامن من اذار ذكرى ثورة الشواف (عام 1959) التي تمخضت عنها بداية حملة القضاء على المسيحيين سكان مدينة الموصل عن طريق الاغتيالات، او عن طريق ارعابهم ودفعهم الى الهجرة، وذلك بحجة كونهم من انصار السلام، انصار الزعيم، او انصار الشيوعية، وكان من نتائج حملة سنوات الرصاص القاتل هذه والتي دامت ما يقارب الثلاث اعوام هو سقوط 1000 قتيل تم اغتيالهم غالبا في وضح النهار وتهجير ما يقارب 30000 عائلة وفق احصاءات حققها الحزب الشيوعي ونشرها الكاتب المؤرخ “عبد الخالق الحمداني”…
كنت خلال هذه الفترة (1959) لا زلت تلميذا في مدرسة شمعون الصفا “التابعة لكنيسة مسكنة” وكان كافة تلاميذها من المسيحيين بخلاف تلميذين فقط من اتباع الديانة الاسلامية احدهما ابن مدرس التاريخ الاستاذ محمود، والمدعو عصام ابن الاستاذ جاسم. وجاء يومذاك اقتراح بتوحيد مناهج واواقات الدوام في كافة مدارس العراق، وذلك كان يعني الغاء عطلة الاعياد المسيحية وتدريس مادة الدين الاسلامي عوضا عن الدين المسيحي؛ فدعى تلاميذ المدارس المعنية اعلان الاضراب والتوجه في مسيرة حاشدة الى مديرية التربية في لواء الموصل “منطقة الدواسة على ما اعتقد” وكان عجبي كبيرا امام العدد الهائل لاولاد المسيحين في مدينتي وتم استقبالنا من قبل ممثل التربية المرحوم الشاعر المغبون يوسف الصائغ والذي دعانا الى الاعتماد على الله وعلى اصحاب النوايا الطيبة من ابناء العراق بعد ان الح علينا بالعودة الى الدراسة.
في الثامن من اذار 1959 يوم انقلاب الشواف كان يوم بداية تطهير الموصل من سكانها الاوائل (المسيحيين)، الذين اصبحوا كبش الفداء في خضم تصفية الحسابات القديمة بين العرب والاكراد، من حيث ان عدد كبير من قادة الجيش العراقي هم من ابناء الموصل وفي الغالب كانوا يقودون قطعات الجيش لمحاربة الاكراد (مثل العقيلي) وفي الموصل ايضا تم قتل اعلى قائد عسكري كوردي (هو بكر صدقي قائد اول انقلاب عسكري في العراق وللتذكير كان صدقي مسؤلا عن مذابح الاشورين 1933) .
اعقب مقتل الشواف منع للتجوال وفوضى في المدينة، ولما خرجنا من بيوتنا كانت المدينة تحت سيطرة مسلحين اكراد، ثم راينا الجثث تتدلى من اعمدة الانارة او تسحل خلف العربات، وشاعت انباء عن محاكم صورية لابناء عشائر متنفذة في المدينة.
ثم سادة اجواء الرعب والاغتيالات وهيمنة عصابات السطوا الطامحة بالاستيلاء على اموال المسيحيين (شريحة كبيرة من المسيحيين كانوا من الاطباء، الصيادلة، المهندسين، الاعمال الحرة ..الخ) فتم اخافتهم بتهمة كونهم من انصار السلام (نسبة الى كامل قزانجي المسيحي الموصلي ورئيس مجلس السلم “اغتيل في احدى ضواحي المدينة”).
البقاء في الموصل لم يعد يطاق مما دفعنا انا واخي موفق الى الالتحاق بثانوية تلكيف لانها مدينة مسيحية ولم يكن يقطنها سوى مسلم واحد هو مامور المركز . لا زال الحنين يشدني الى هذه المدينة الوديعة الهادئة وحقولها العابقة برائحة السمسم والشمام. ولما بحثت فيها عن مكتبة لاستعارة بعض الكتب دلني زملائي الى مكتبة كنيسة تلكيف حيث تسنى لي قراءة دكتور جيفاكو في سن الخامسة عشر من عمري.
قداسة البابا في رحلتك الموفقة الى العراق ارجوك ان تعرج على زيارة مدينة السمسم والشمام، وكذالك الى مدرسة شمعون الصفا الخاليتان تماما من المسيحيين. وخبرنا كيف يمكننا ان نعود الى بلد يقتل فيه انصار السلام؟ ولمصلحة من هذه الزيارة؟