كلدايا . مي :
تعليق: نـنـشـر عـلى موقعـنا مقالة ” حكاية مردان ، أو الراهـب حـنا ” للقس لوسيان جميل ، ولـطـولها سنجعـلها ستة أجـزاء ولـنبـيّـن أن مثل هـذه الأفكار الهـدامة تسيطـر الـيوم عـلى الكـنيسة الملقبة ــ بالكنيسة الكلدانية ــ حسب تعـبـير الكاتب ، وأن مثل هـذه الأصوات العالية نـسمعها ممن هـو في قـمة الهـرم (غير انني استثني من الانتقاد … غبطة البطريرك) والـويل لصوت يخالـفه ! وكـذلك لا يوجـد هـناك صوت مِن قِـبَـل المطارنة والكهـنة يعارضه ، إما لضعـفهم أو لحـساباتهم الشخـصية تحـول دون كـتابة ما يؤمنون به . إنّ ما هـو مهـيمن عـلى الساحة الكـنسية الكلدانية الـيـوم سـيؤدي في النهاية إلى الهلاك إذا ما إسـتمر ذلك . فإقـرأوا سـلام الـوداع عـلى كـنيستكم العـزيزة ” المنكـوبة ” وإذا لم يتحـرك ضميركم الكهـنوتي والإنساني فهي زائلة إلى الفـناء أمام أعـينكم وعـنـدئـذ لات ساعة مندم .
حكاية مردان، او الراهب حنا -حكاية شعبية استخدمتها في العام 2010
عنوانها الآخر: الى كنيسة منكوبة بحسها المسيحي والوطني
حكاية ذات مغزى اعيدها الآن لفائدتها في لاهوتنا المعاصر
اعزائي القراء
كان ويا ما كان،
كان في سالف الأيام والأزمان، قاطع طريق شرير اسمه مردان. في احد الأيام نور الله عقل مردان ولين قلبه، فتاب مردان توبة نصوحا وترك حياته الماضية التي كان قد قضاها بالسرقة وسلب اموال الناس. غير ان مردان لم يكتف بالتوبة، لكنه قصد ديرا في البراري، وقدم طلبا الى رئيس الدير للانتماء الـى تلك الرهبنة، بعد ان حكا له قصة حياته كلها. فلما اقتنع رئيس الدير مـن صدق نوايا مردان قبله اخا جديدا في الدير وألبسه الثوب الرهباني وأعطى له اسما جديدا هو اسم الأخ حنـا، او الراهب حنـا. ولما استقر الأخ حنا في الدير بدأ يتعلم هناك اصول الحياة المسيحية والرهبانية وقواعد الصلاة والتأمل والعبادة. وقد تعلم الأخ حنا في الدير امورا كثيرة، لكن اهم ما كان قد تعلمه هو وصية منسوبة الى السيد المسيح تقول: من ضربك على خدك الايمن فحول له الآخر. وفي يوم من الأيام بينما كان الراهب حنا صاعدا الى سفح الجبل ليعمل في كرم يعود للدير، واذا بقاطع طريق يوقفه ويغرز وتدا في الارض ويقول له: اجلس هنا على هذا الوتد ايها الراهب. فلما رأى الأخ حنا جدية الموقف وخطورته، اخذ يفكر في نفسه ويقول: ان معلمي يسوع قال: من ضربك على خدك الايمن فحول له الآخر، لكنه لم يقل من طلب منك ان تجلس على وتد ” خازوق ” عليك ان تطيعه، حينئذ قال الراهب حنا في نفسه: اليك عني ايها الراهب حنا، وتعال يا مردان من جديد. ثم مد مردان يده الى الوتد وقلعه من الارض وضرب به اللص وقتله وتخلص من شره.
مغزى حكاية الراهب حنا:
اما مغزى قصة الراهب حنا فواضح وبسيط، ذلك ان هذا المغزى ليس مغزى سياسيا، لكنه مغزى لاهوتي وأخلاقي، يشمل جميع الناس بشكل عام، ويشمل المسيحيين في هذا المقال بشكل خاص، فضلا عن مؤسساتهم الكنسية المختلفة ، اما شمول المسيحيين الخاص بمغزى المثل فيعود الى ما نجده عندهم وفي اوساط كنائسهم باكليروسهم ولاهوتيتيهم من ضبابية حول مفهوم السلام وحول سائر الفضائل المماثلة التي نجدها في ما يسمى الموعظة على الجبل، او التطويبـات، حتى نكاد نؤكد مع المثل السرياني السوادي الذي يقول: ان الضباب عرس الذئاب.
وفي الحقيقة من يدري!
فقد يحسب البعض ان الخلل في مفهوم السلام في الكنيسة يأتـي مـن خلل في قراءة الكتب المقدسة، ومنها كتاب الانجيل، ومن جهل بحقيقة النصوص الكتابية، غير ان الحقيقة ليست كذلـك فقط. ذلك ان الخلل الحقيقي يعود الى قراءة مؤدلجة ومسيسة لهذه الكتب، كما كان الخلل في السابق يعود الى قراءة حضاريـة مؤدلجة للكتب المقدسة، يمكن ان نسميها قراءة ما قبل العلم، او القراءة البدائية الساذجة. علما بأن الأدلجة تتسرب الى قراءة حضارية معينة للكتب المقدسة تسربا خفيا، قد لا يشعر به القارئ او اللاهوتي بسهولة، ويعتبر ما يقرؤه وما يفهمه لاهوتيا حقيقة لا لبس فيها، الأمر الذي يحصل ايضا مع القراءة البسيطة الساذجة التي تعتمد على رؤية حضارية خاصة.
هذا وقد يأتي الخلل الذي يقود الى فهم مؤدلج لكلام الموعظة على الجبل من طبيعة الموعظة على الجبل نفسها. ذلك ان ما كان بسمو مفردات الموعظة على الجبل الانسانية الرفيعة التي تتوجه الى المشاعر اكثر مما تتوجه الى العقل، يصعب تحديده وتعريفه بسهولة، وبالتالي تتعذر المعرفة الكاملة بطبيعته، من هنا يبقـى الباب مفتوحا لتعريف ملتبس يحمل اكثر من معنى، كما يبقى الباب مفتوحا، سواء لقبول معنى التطويبات او لرفضها او لتشويه معناها من اجل التخلص من تبعاتها. وهكذا وعوضا عن الكلام عن الخلاص الحضاري على الأرض، أي التحرير الذي يطلبه الله او مقدسنا الأنثروبولوجي، يتم الكلام عن خلاص في عالم آخر، لأن خلاص هذا العالم يتطلب مواقف لا يريد رجل دين ان يسمح بها، او حتى يسمع بها. اما ملكوت الله فيتم ابعاده الى العالم الآخر، عوضا عن ان يكون انقلابا سعيدا ومطلوبا يحصل في عالمنا الحاضر، هذا الملكوت الانساني الذي يحمل معاني كثيرة بنيوية، انسانية تتعلق بالمشاعر وتطبيقاتها ورموزها الاجتماعية التي ليست رموزا بسيطة.
وبما ان كلام الموعظة على الجبل هو كلام قيل مـن اجل مجيء ملكوت الله الحقيقي في هذا العالم، فان هذا الكلام تحول من كلام يخدم الانقلاب في حياة الفرد وفـي حياة المجتمع الى كلام لا يخدم سوى الشريعة والمتمسكين بها. لذلك نفهم لماذا قبل المسيحيون الأوائل التطويبات بمعناها الديناميكي الحقيقي الذي كانت له القدرة على نقل الجبال رمزيا من محلها ولماذا استطاع المسيحيون الأوائل ان يضعوا التطويبات او الموعظة على الجبل في حياتهم العملية ويستفيدوا منها في نضالهم، في حين صارت هذه التطويبات عقبة مهمة في طريق كنيسة ما بعد قسطنطين الملك، هذه الكنيسة التي تحولت بليلة وضحاها من كنيسة مضطهدة الى كنيسة في الحكم جنبا الى جنب مع الأباطرة، فيما يسمى الثيوقراطية المسيحية.
لذلك ايضا نرى كيف عمدت هذه الكنيسة في خطابها الى تحوير خطاب التطويبات ليكون ملائما لوضعها الاجتماعي الجديد، وهو وضع الأمة الدينية الثيوقراطية، حيث كان على الكنيسة ان ترضي ربين في آن معا: الله والإمبراطور، ربما كما يحصل للكنيسة الآن في اماكن عديدة من العالم، ومنها الكنيسة الجامعة، وكنيسة العراق التي تسعى الى ترضية او عبادة اكثر من ربين، لأنها اصبحت كنيسة فاقدة لهويتها، واصبح اي نقد لها واي تحريض على التواضع امرا ممنوعا وربما مزعجا ايضا لكنيسة تعودت على ان تنال التبجيل دائما. ففي الحقيقة قد غلبت هنا ثقافة الامبراطورية على ثقافة التحرير الاولى في الكنيسة، هذه الثقافة التي نجدها في طول الاناجيل وعرضها، ونجدها بشكل خاص في الموعظة على الجبل التي ادرجها الآن امام انظار القارئ ليكـون على علم بالأمور التي نتكلم عنها.
فالموعظة على الجبل تقول:
طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات.
طوبى للمحزونين لأنهم يعزون
طوبي للودعاء لأنهم يرثون الأرض
طوبى للجياع والعطاش الى البر لأنهم يشبعون.
طوبى للرحماء، لأنهم يرحمون.
طوبى لأنقياء القلوب، لأنهم يشاهدون الله.
طوبى لصانعي السلام لأنهم ابناء الله يدعون.
طوبى للمضطهدين من اجل البر لأن لهم ملكوت السماوات.
طوبى لكم اذا عيروكم واضطهدوكم وقالوا عليكم كذبا كل كلمة سوء من اجلي
افرحوا وابتهجوا لأن اجركم في السماوات عظيم. هكذا اضطهدوا الأنبياء قبلكم.
ملاحظة: ان كلمة طوبى السريانية مماثلة لكلمة هنيئا. وعبارة البر تعني ( الحق عندنا )، لكنها كانت تعني السير بحسب الشريعة الالهية في مفهوم الأمة الثيوقراطية. اما اذا اردنا ان نتكلم عن الروحانية وعن التصوف فاننا بحسب معرفتنا بالإنسان، فاننا لا نجدها في يسوع المسيح الأسطوري، بل نجدها في يسوع الانسان وفي قواعد التطويبات على الجبل، فهي ينبوع كل روحانية حقيقية وحتى كل تصوف مسيحي، فضلا عن بعض الصفات النفسية الجسدية عند المتصوف التي تكون عنده بشكل حاد جدا Super sensibilité .
سؤال ودي الى الأخ المسلم: ولكن قبل ان اواصل كلامي اود ان اسأل اخي المسلم وأقول له: ترى الم يحصل لك ان وقعت عينك على نصوص قرآنية وغير قرآنية تشيد بالمستضعفين الأوائل مـن المسلمين الذين قيلت بحقهم مثل هذه الكلمات الرائعة؟ اعتقد جازما ان كلام التطويبات موجود بشكل او بآخر في كثير من النصوص الاسلامية الاولى المقدسة وغير المقدسة، بكون الموعظة على الجبل كلاما عميقا يعود الى طبيعة الانسان بصفته انسانا. لكن المسلمين، على علمي القليل، ربما لا يعيرون بالا بكفاية لهذا الكلام الانساني المبثوث في ادبياتهم وكتبهم المقدسة كلها، لأسباب لست بصددها الآن، شأنهم شأن المسيحيين طبعا.
اما التحوير الذي حدث في معاني الموعظة على الجبل فناتج عن التباس وغموض حصل بعد ان خرجت الكنيسة مـن خفاء ” الدياميس ” الى العلن، أي بعد ان تحولت الكنيسة من كنيسة مضطهًدة تعمل طقوسها وتمارس ايمانها بخفاء في مقالع مهجورة خارج مدينة روما الوثنية، الى كنيسة حاكمة مع الامبراطور قسطنطين ومن جاء بعده، بعد ان اهتدى هذا الامبراطور الـى المسيحية، او هكذا خيل لكثير من المسيحيين آنذاك، وبعد ان أعلن الملك قسطنطين المسيحية دينا رسميا للدولة الرومانية عام 313 ميلادية، بما يسمى بمرسوم ميلانو. اما هذه الحالة الجديدة فقد نشأ عنها ما سمي في الستينيات من القرن المنصرم، من خلال تحليل سوسيولوجي ( اجتماعي )، بالمساومة الكبرى بين الكنيسة والدولة، هذه المساومة التي كانت تقتضي من الامبراطور حماية الكنيسة، كما كانت تقتضي من الكنيسة الدفاع عن الامبراطورية، بما تملكه من وسائل لاهوتية وأخلاقية كانت تناسب وضعها الثيوقراطي ( كأمة دينية ) ومن سلطة غالبا ما استخدمت بشكل تعسفي، كما يحدث ذلك في ايامنا ومن قبل في كل زمان ومكان، وفي كل المؤسسات الكنسية الراهنة، لا بل في كل وقت وزمان بنسب مختلفة، اللهم الا اذا كانت المؤسسة الكنسية مجبرة على التنازل عن عنادها، كما حصل في اعقاب الثورة الفرنسية.
قراءة مؤدلجة للتطويبات: من هنا نحن لا نستغرب ان تكون قد حصلت قراءة اجتماعية مغايرة لكثير من المبادئ الانسانيـة التي نجدها في العهد الجديد وفي الكنيسة الأولى التي سميت بكنيسة الدياميس، أي المقالع المهجورة التي كان يجتمع فيها المسيحيون الأوائل في عهد ما قبل قسطنطين ويقيمون فيها طقوسهم، في زمن يمكن تسميته بزمن النضال المسيحي السري، الذي يماثل نوعا ما زمن الهجرة النبوية الشريفة، لأننا امام حالة انسانية متماثلة ومتشابهة من كثير من الوجوه.
اما هذه القراءة المؤدلجة التي فرضت نفسها بعد عهد قسطنطين فهي تعود الى مسألة الخلاص ومسألة العالم الآخر، ومسألة السلام ومسألة فضيلة التواضع والصبر ومسألة موعظة يسوع على الجبل او التطويبات، وغيرها من الفضائل النبيلة السامية. علما بان مثل هذه القراءة المؤدلجة خدمت ردحا طويلا حاجة الكنيسة الى اخضاع الطبقات الاجتماعية المسحوقة لطبقة الاقطاع الحاكمة آنذاك، لأن الكنيسة كانت تحض الطبقات المحكومة على تحمل وضعها وعلى الصبر وعلى الابتعاد عن العنف وعن التمرد وعن الثورة، في حين لم يكن خطاب الكنيسة الموجه الى اقوياء العالم فيما يخص العدالة الاجتماعية يلقى اذنا صاغية عند احد ولم تمارس الكنيسة دعوتها النبوية لشجب الظلم الا قليلا، ربما الى زمن البابا بيوس العاشر، ومن زاوية الحرس على المسيحيين فقط. علما بأن كنيسة الغرب، كانت ردحا طويلا مع الرأسمالية والاقطاع كما كانت غير مبالية بالعمال والطبقات المسحوقة لفترة طويلة حتى حلول عهد الماركسية التي كسبت كثيرا من جرف الكنيسة الكاثوليكية. لقد كان الشيوعيون والاشتراكيون في الغرب الأوربي، وليس في الشرق الشيوعي، يقولون للكنيسة: خذوا الأبناء لكم الى عمر 16 سنة ثم بعد ذلك هم سوف يأتون الينا.
القس لوسيان جميل
تلكيف ـ محافظة نينوى ـ العراق
23-6-2010
تجديد وتعليقات جديدة في 10 / 6 / 2020
المصدر: https://www.algardenia.com/maqalat/44749-2020-06-12-06-03-48.html