” يَوم الخَمسين هُو يوم تأسِيس “
كنيسَة العهْد الجَديد:
قبْل يوم الخمسين كان الرسُل جماعة صغيرة لا يجمعها كيان؛ وكانت الشّكوك تساورهم، أما في يوم الخمسين فقد أعطاهم الروح القدس كل مقوّمات بناء الجماعة أو الكنيسة. فعندما سألت الجموع بطرس والتلاميذ عما يفعلونه أجاب الرسول: “قوموا وليعتمد كلّ واحد منكم باسم يسوع المسيح” {أعمال 28 :2} لقد كان يوحنّا المعمدان يعمد وكانت معموديته للتوبة وكان التلاميذ يعمّدون قبل صلب المسيح وقيامته {يوحنّا2 : 4} ولكن الكتاب المقدس لم يكشِف لنا عن صيغة تلك المعموديّة، أمَّا المعمودية المسيحيّة الأساسية فقد بدأت يوم الخمسين وأصبحت تجري باسم يسوع المسيح.
كذلك بدأوا يواظبون على الشركة وكسر الخبز والصلاة “وكانوا مواظبين على تعليم الرسل والشركة وعلى كسر الخبز والصلاة”{ أعمال42 :2} {يعني بتعليم الرسل، التبسط في تعليم يسوع وتفسير الكتاب المقدس على ضوء الواقع المسيحي والشركة أي الحياة الأخويَّة القائمة على وصية المحبة والتعاطف وكسر الخبز أي الإفخارستيا، يقيمونها في أحد البيوت، ولم تكن منفصَلة عن طعام العشاء العادي {كورنثوس الأولى34_20 :11} والصّلاة هي الصلوات الطقسية اليهودية في الهيكل، {أعمال46 :2 } وفي هذه الآيات وصف نمط من الاشتراكية زاولها المسيحيون الأولون في أورشليم ولكنها كانت عفوية حرة لا إكراه فيها وهذا النمط من الحياة المشتركة اتخذه الرهبان من بعد} وارتبط كسر الخبز بذكرى موت المسيح إلى أن يجيء ” فأنّكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء” {كورنثوس الأولى 26 :11}. كذلك أصبح لهم قواعد إيمانية يقرون بها وتربطهم معا أهمّها: أن المسيح صلب وهذا ما أعلنه بطرس: “صلبتموه وقتلتموه بأيدي أثمَة ” {أعمال 23 :2} وأنَّه قام من بين الأموات، “الذي أقامه الله ناقضا آلام الموت إذ لم يكن ممكنا أن يمسكه الموت ” {أعمال 24 :2} وأنه صعد إلى السّماء “وإذ كان قد ارتفع بيمين الله ” {أعمال 33 :2} وأنه رب “أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه ربا ومسيحا” {أعمال 36 :2 } وأكّد هذا الإقرار في بيت كورنيليوس “الذي هُو ربّ الكل”{أعمال 10:36} ولم يتوقف عند الإعتراف بأنَّه ربّ بل أعْلن أنّ ” كل من يدعو باسْم الرَّب يخلص” { أعمال21 :2 } وأكّد هذا في بيْت كورنيليوس قائلا : “… أنَّ كلّ من يؤمن به ينال مغفرة الخطايا باسمه ” {أعمال 43 : 10} وأنّه سيدين الأحياء والأموات: “ونشهد بأنّه هو الذي عينه الله ديانا للأحياء والأموات” {أعمال 42 :2 }. ولقد أدرك الرسل في اليوم الخمسين أنّهم أصبحوا كيانا جديدا حلّ محلّ الكيان اليهودي وقد كان هذا الكيان ينمو بسرعة عظيمة فلقد إعتمد وأنضم إلى الكنيسة في يوم الخمسين ذاته ثلاثة آلاف نفس؛{أعمال2:41 } وبعدها بقليل نقرأ أنّ عدد الرجال فقط الذين آمنوا أصبح خمسة آلاف؛{أعمال4 : 4} وبعدها نقرأ “وكان المؤمنون بالرب يأخذون في الإزدياد جماعات من الرجِّال والنساء” {أعمال14 :5 } ولذلك وجَد التلاميذ أنَّه من الضرورة تنظيم هذا المجتمع الجديد فاختاروا سبعة لخدمة الموائد { أعمال3 :6} وأرسلوا بطرس ويوحنّا إلى السامرة {أعمال 8:14 } وأرسلوا برنابا إلى أنطاكيا {أعمال 11:22} ورسموا كهنة في كل كنيسة أسَّسوها {أعمال 23 :14}. وكان يتمّ فرز الخدام {كهنة الكنيسة} بوضع الأيدي {أعمال13:3 } فلقد أدركت الجماعة ذاتها، كما أنها أدركت هدف وجودها؛ ويدلّ نموّ الكنيسة السريع بكل وضوح على أنّ الكنيسة قد اتخذت القرار الحاسم بالعمل لتقديم يسوع إلى العالم غير عابئة بما يجره عليها هذا العمل، والبحث وأصبحت خطواتها ثابتة بقوَّة الروح القدس، فحقا أن يوم الخمسين هو يوم ميلاد الكنيسة.
في يوم الخمْسِين اسْتوعَب الرُّسل إنجِيل المسِيح:
قبل يوم الخمسين كانت أسئلة التلاميذ للمسيح وتساؤلاتهم كثيرة، فقال لهم يسوع: “في ذلك اليوم لا تسألونني عن شيء” {يوحنّا 23 :16} وعبارة “في ذلك اليوم”، تشير إلى الفترة التي تلي قيامة الرب من بين الأموات، وكأن هذه الفترة هي يوم واحد،عندما راح يسوع يتراءى للرّسل في أحوال مختلفة، وفي يوحنّا {12 :21 } تأكيد على هذا المعنى. وكثرة الأسئلة تدلّ على عدم استيعاب التلاميذ لرسالة المسيح، فلم يكونوا بعد على مستوى العهد الجديد، فقبل يوم الخمسين رفضوا فكرة الصلب، {متى 22 و16 :16} وكانوا لا يعلمون إلى اين سيذهب، ولا يعلمون الطريق {يوحنّا 5 :14} وكانوا يردّدون :” أنه كلام عسير فمن يطيق سماعه ” {يوحنّا 60 :6 } و”ما هذا الذي يقوله لنا ” {يوحنّا 17 :16 } وكان وعد المسيح لهم: “وأمَّا المعزّي {البرقليط} الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلّمكم كل شيء ويذكّركم كل ما قلته لكم ” {يوحنّا 26 :14 }.
وقد كان التلاميذ قد نسوا تعاليم كثيرة مما قاله السيد لهم، ولم يفهموا تعاليم أخرى، ولكن عندما حلّ عليهم الروح القدس ذكّرهم بكل شيء، وكشف لهم عن معاني أفعال وتعاليم المسيح. فمثلا قال المسيح لليهود: “أنقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه” {يوحنّا 18 :2 } ولم يفهم التلاميذ هذا الكلام “ولما قام من بين الأموات تذكّر تلاميذه أنه قال هذا فآمنوا بما كُتب وبالكلام الذي قاله يسوع”{يوحنّا 22 :2 }.
ولمّا دخَل المسيح إلى أورشليم وقوبِل باشارات النصر والفَرح وبالهتاف: “هوشعنا مبارك الآتي باسم الربّ “{يوحنّا 18 :12} فلمْ يفهم التلاميذ هذه الامور، يقول يوحنّا: “وهذه الأشياء لم يفهمها تلاميذه أوَّلا” ولكن لمّا مُجّد يسوع حينئذٍ تذكّروا أنَّ هذه أنما كُتبت عنه، وأنهم عملوها له” {يوحنّا 16 :12}.
لقد أعطاهم الروح القدس فهما واستيعابا لكلّ ما عمله المسيح أمامهم، ولكل التعاليم التي علّمها لهم، وذكّرهم بكل شيء. أن الروح القدس لم يضف تعاليم جديدة، بل ذكّر وأرشد إلى تعاليم المسيح كما نطق بها بمزيد من الإستنارة وقوّة البصيرة، ولذلك قال المسيح: “هو يمجّدني لأنَّه يأخذ ممَّا لي ويخبركم” {يوحنّا 14 :16 }، وتمْجيد الروح القدس للمسيح لا يعني أنَّه سيزيد على حقيقة المسيح شيئا، لأنّ مجده كامل، بل أنّه عندما يعلن حقيقة المسيح الإلهيّة، كابن الله الوحيد، وحقيقة ما عمله لأجلنا فهذا كمال التَّمجيد. أن عمل الروح القدس في تمجيد الإبن هو المكمّل لتمجيد الإبن للآب وإعلان حقيقته لكل العالم.
أن موهبة الروح القدس ليست عطيّة مؤقّتة لفترة محدودة، بل هي عطيّة الله الآب الدائمة في كنيسته، وهذا ما قاله المسيح لتلاميذه: “لأنّه مقيم عندكم ويكون فيكم” {يوحنّا17 :14 }. وكان معهم لما كان المسيح مقيما معهم، ولمّا رُفِع بيمين الله، أقام الروح القدس فيهم، وكان هذا في يوم الخمسين. وهو قائم في كنيسة السيد المسيح إلى حين مجيئه الثاني.
والروح القدس أفاض محبّة الله في قلوبنا “لأنّ محبة الله قد أُفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي أُعطِي لنا “{رومية 5:5 }. فالروح القدس يعلّمنا كيف نحبّ، ويمنحنا القوّة لكي نحب.
والروح القدس روح القيامة، أصبح ساكنا فينا: “أن كان روح الذي أقام يسوع من بين الأموات حالاًّ فيكم فالذي أقام المسيح من بين الأموات يحيي أيضًا أجسادكم المائتة من أجل روحه الحالّ فيكم”{ رومية 11 :8 } وروح القيامة ينزع الخوف والقلق من الإنسان، فبعد القيامة كان التّلاميذ مجتمعين والأبواب مُغلَّقَةً خوفا من اليهود {يوحنّا 19 :20 } ولكن بعد حلول الروح القدس أنطلقوا للبشارة في كل مكان دون خوف من الموت أو من القبر، حتَّى حين أمسكهم اليهود وضربوهم وجلدوهم بقوا فرحين لأنهم حُسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل اسمه. { أعمال 41 :15 }.
وبالروح القدس قبلوا التحدّي والمغامرة في حياتهم وفي خدمتهم، قال بولس الرسول: “والآن ها أنا سائر إلى أورشليم مأسورا بالروح لا أدري ما سيَعرِض لي هناك. الا أنّ الروح القدس يشهد في كل مدينة قائلا: ” أن قيودا ومضايق معدّة لي في أورشليم ” {اعمال23 و22 :20 } فبولس لا يهرب من الشدائد والمضايق والعراقيل،بل يواجهها بكل تحدٍّ دون خوف أو وجل فالروح القدُس السّاكن فيه يعطيه هذه المواهب ويقوّيه.
وروح الله هو روح الرجاء { كولوسي 27 :1 }. الرَّجاء أن يرشدنا إلى طريق الأبديّة، ويحمينا من كل خطر وضيق وشدّة، يزرع فينا الأمل والحبّ ويقتلع من قلوبنا اليأس والحزن.
فللروح القدس، الرب المحيي، المنبثق من الآب الذي هو مع الآب والابن الناطق بالأنبياء نسجد ونمجّد.
العنْصرة بين عهْدين: العهْد القَديم والعهْد الجَدِيد:
إن ذكرى العنصرة هي ذكرى مزدوجة لليهود والمسيحيّين. لليهود وهي اليوم الذي تمّ فيه إعطاء الشريعة لموسى، وللمسيحيّين هي اليوم الذي فيه تحقّقت النبوءات ووعد المسيح بحلول الروح القدس.
فأن النبيّين إرميا {33_31 :31}وحزقيال{27 :36} تنبئا بإعطاء شريعة جديدة روحيّة يكتبها الله في النفوس والقلوب لا في الألواح.
وثمّ: هذا يوم أفاض الله روحه القدّوس على الأرض ليجعل الأنسان خليقة جديدة، ففي الأزمنة الأخيرة يحلّ روح الله على كل بشر يختارهم كما تنبّأ يوئيل، وكما تنبّأ أيضا حزقيال، فتجديد العهد، وتجديد الشريعة قَد تمّا عنْد حلول الروح القدس على البشر: التّلاميذ واليهود والأمم الذين تابوا واعتمدوا باسم يسوع المسيح.
والكِتاب المقدّس والأنبِياء يقرنون ذلك كله بظهور المسِيح، لذلك تميّزت دعوة السيد عمّا سبقه بأنها عهد الروح القدُس الذي وعدهم به طيلة مدة رسالته، وقبل رفعه إلى السّماء حدد زمن الوعد للتّلاميذ بقوله: ” بعد أيّام قليلة ” {أعمال 5 :1 }.
ويمكننا أن نجمل الفروق بين العنصرتين _ العهدين: اليهوديّة والمسِيحيَّة، بعد كل ما تقدّم بما يلي:
1- فالعهد المسيحي _ العهد الجديد، هو عهْد الروح لا عهْد الحرْف. وهذا ما أعلنه الرسول بطرس بعد حلول الروح القدس، في خطابه الأوّل للتلاميذ والشعب جميعا _ الكنيسة مستشْهِدا بنبوءة يوئيل مُعلنا تحقيقها في هذا اليوم قائلا: “يسوع هذا قد أقامه الله ونحن جميعا شهود بذلك، وإذ قد ارتفع بيمين الله وأخذ من الآب الروح القدس، أفاضه الله كما تنظرون وتسمعون” {أعمال33_ 32 : 2} فالمسيحيّة التي أسّسها المسيح، ودعا إليها تلاميذه ورسله هي عهد الروح في تاريخ البشرية. ففي العنصرة تمّ وعد الكتاب المقدس _ العهد القديم ووعد الإنجيل _ العهد الجديد بحلول الروح القدس على البشر.
2_وفي العنصرة المسيحيَّة تمّ وعد الكتاب المقدس بحلول شريعة جديدة روحية في نفوس المؤمنين، لتكون شريعة روحية فيهم بدَل شريعة الحرف.
فاليهود يعيّدون لاعطاء حَرْف التوراة والمسيحيّون يعيّدون في العنصرة لحلول الروح شريعة جديدة روحيَّة في النفوس. فالروح القدس بحلوله في نفوس المؤمنين هو شريعة العهد الجديد.
3_كانت العنصرة اليهوديَّة ذكرى قيام العهد القديم، فجاءت العنصرة المسيحيَّة ذكرى لقيام العهد الجديد، فالعهد الجديد الذي أسَّسه السيّد المسِيح، بدعوته وموته على الصّليب، وقيامته يقوم اليوم بحلُول الروح القدُس عَلى كنيسته، فالعنصرة المسيحيَّة هي فاتحة العهد الجديد: ” ستعمّدون بالروح القدُس بعد أيام قليلة “{أعمال 5 : 1 }.
4_فالعمَّاد المسيحي هوَ العمَّاد بالرّوح القدس الموعود فيه، يحلّ روح الله على المعمّد، وليس الماء والزّيت سوى رموز مقدّسة بواسطتها يفيض الله روحه في النفس المؤمنة. فالعمَّاد المسيحي هو الواسطة والزَّمن الذي فيه يحلّ روح الله في المعمّد، ويتمّ تصريح ذلك في الميرون.
5_والعمَّاد المقرون بالميرون هو حلول الروح القدس للشهادة: ” ستعمّدون بالروح القدس…وتكونون لي شهودًا “{أعمال8 و5 :1} فروح الله يحلّ على المعمّد ليكون شاهدًا للمسيح فالشّهادة المسيحيّة هي عمل الروح القدس وقد افتتح يسوع المسيح، رسالته بحلول الروح القدس عليه، يوم عمّاده والرّسل يفتتحون الرسالة المسيحيَّة في العالم بعمّادهم في الروح القدس.
فحلول الروح القدس على الكنيسة يوم العنصرة، هو ختام الدعوة الإنجيلية وثمرة صلْب المسيح: “وإذ قد ارتفع بيمين الله،وأخذ من الآب الرّوح القدس الموع ود،أفاضه كما تنظرون وتسمعون” {أعمال33 :2} فالعنصرة المسيحيّة هي تكريس العهد الجديد، عهْد المسيحيّة، وعهد الروح القدس، وتكريس الرُّسل للدعوة والرسالة في العالم.
6_العنصرة اليهودية هي ذكرى إعطاء الشريعة، فجاءت العنصرة المسيحية ذكرى حلول الروح القدس على الكنيسة، فالعهْد القديم هو عهد الحرف، والعهد المسيحي الجديد هو عهد الروح. وهذه هي ميزة المسيحيَّة الكبرى على سائر الأاديان، أنها دين الروح لا دين الحرْف في الكِتاب.
أن موعد العيد متغير تبعا بموعد عيد الفصح ولكن العنصرة تأتي دوما يوم الأحد اليوم الخمسين بعد القيامة.
طروبارية العنصرة: ” مُباركٌ أنتَ أيّها المسيح إلهنا يا مَن أظهرت الصّيادين جَزيلي الحِكمة إذ سكبت عليهم الرّوح القدُس وبهم اصطدت المسْكونة يا محبّ البشَر المجد لك”.
الأستاذ ميخائيل بولس