قـراءة معـمقة للمشروع الخلاصي بناءاً عـلى نصوص الكـتاب المقـدس
مقـدمة:
بعـدما إستـقـر أبرام في الأرض التي أعطاها الرب الإله له ، قطع معه عهـداً أبدياً لا يمحى لأجيالٍ كثيرة من بعـده ، ويكـون نسله كـرمل البحـر وكـواكـب السماء . وفـقاً لهـذا العهد يستمر أبرام في شق طريقه أمام الرب بين مواجهات وتحـديات تجعله يبلور فكـره الإيماني باللـه الخالق نحـو عالم تغـزوه الوثـنية من جهة ، والخطيئة وتـشوه صورته من جهة أخرى ، تحـديداً عكس ما يـؤمن به أبرام ويصبوا إليه من عالم جـديد يتجه نحـو الرقي الإنساني الذي يربط الإنسان بخالقه . يومٌ بعـد يوم يرى أبرام ان مواعـيد اللـه تـتحـقـق ، فهـو يزداد عمقاً وإيماناً ، حتى يصل الى مفهوم العهـد الإلهي المرتبط بجسده وجسد أجياله.
العهـد الإلهي:
نـقـرأ في تكـوين 17 حـدث العهـد الذي قـطعه اللـه مع أبرام وأهل بيته ، الصيغة الكـتابية مبنية على ثلاثة تقاليد توراتية ( الإيلـوهي ، واليهـوي ، والعـلماني) يربطها الكاتب بأسلوبٍ محـترف تعـطي نتيجة إلهية تبين علامة العهـد بين اللـه وشعب اسرائيل على مدى الاجيال ، تـفـقـد في مضمونها واقع أبرام الكلداني وفكـره ، الذي هو أساس هذا العهد في اسرائيل . هذا الفكـر لا يجـوز أن نغـض الطرف عـنه وننسبه الى اسرائيل كأنه صيغة نهائية لتميز اسرائيل بين شعـوب الارض . يجـب أنْ لا نـنسى أنّ هـناك أبرام الكلداني مكـتـشف الوجود الإلهي في العالم البشري ، الذي مِن نسله يخـرج اسرائيل حامل العهـد المقـطوع مع أبرام أولاً.
العهد هـو إتـفاق بين طرفـين ، له صيغة تبـين مضمونها صورة الإرتباط بين الطرفـين ، وتبرز معالمها بالعمل الواقعي لإنجاح هذا الإتـفاق والاستـفادة من نـتائجه. كيف توصل أبرام الى هذا العهد ؟
أولاً : يجب ان نـفهم ان اللـه لا يخـرج من النطاق البشري (المحسوس واللامحسوس).
ثانياً : اللـه يأخـذ مقـومات البناء البشري والإنساني ويقـدسها ويعـطيها معـنى أسمى .
من هاتين النقطتين نستطيع ان نفهم كـيف ينظر أبرام الى وجـوده والواقع الذي يحيا به ضمن ايمانه بالوعـد الإلهي ، الذي يحتاج الى توطيـد هذه العلاقة في عـقـد إتـفاق (عهـد) مع اللـه يجعـل مَن يكـون فـيه ينال البـركة والنمو ، ومَن يكسره يكـون خارجاً عنه . قـضية العهـد عـند أبرام نابعة من واقعه الإنساني ، يرى كل نمو وتكاثر في نسله ، وتطور فكـري وانساني في مجـتمعه ، وإستمرار في تـقـدمه نحـو الأفـضل ، مصدره اللـه الخالق ، أي الكمال الإنساني على الارض هو صورة طبق الأصل من الخالق . هذا الكمال الذي يجسده أبرام ضمن عشيرته يضيف إليه مسؤولية نلاحظها في تغـيـير إسمه بالآرامية من (أبرام الى أبراهام) … بالعـربـية تعـرب الى (إبراهيم) ، أي الأعلى أو الأكـبر في عـشيرته.
هذه المسؤولية الجـديدة التي يحملها أبراهام داخل مكـون عشيرته وأهل بيته ، جعلته ان ينظر الى عادة الخـتان (الطهـور) لـدى الذكـور منهم ، هـذه العادة المنـتـشرة في ذاك الزمان عـنـد المجـتمعات البدوية منها بسبب قـلة المياه والترحال المستمر من مكان الى آخـره ، وقـلة النظافة ، أبراهام نتيجةً لإيمانه باللـه ، وضعها كعلامة تميز أبناء شعـبه عن غيرهم من الشعـوب الوثـنية المحيطة بهم . بعـد وصول أبراهام الى هذا العمق في الإيمان ورؤيته للوعـود الإلهية له ، جعـل من علامة التميز العشائري ، رمزاً للعهـد مع اللـه الذي يؤمن به هـو وأهل عـشيرته معه . إنّ نظرة أبراهام الإيمانية واللاهـوتية هنا ، إن اللـه الخالق له تـدخل مباشر في جسم الإنسان ويرتبط معه في عهـدٍ مقـدس تجعله يتحـرر من عـبودية الأوثان وينتـقـل به الى حـرية أبناء اللـه ، تحـرر من الخـوف ، وتحـرر من الأفكار التي تـقـيد الانسان من المخلوقات والعادات ، وتجعله حبيس ذاته في فلكٍ يهابه.
خاتمة:
العهـد الإلهي مع أبراهام هو نـقـطة تحـول في الفكـر البشري ، تـتجه بها الإنسانية جمعاء نحـو اللـه الخالق ، اصبح في المسيحية سر العماذ المقـدس صورة لها ووسم روحي لا يمحى الى الابد . الكـنيسة اليوم لا يجب أن تـنظر الى أبراهام كـ ــ نبي ــ فـقـط ، لكـن هو وقـفة في الزمن منها تـنـتـقـل البشرية جمعاء الى ما وراء الطبيعة من خلال سبر اغـوار الطبيعة وعمقها ، وما تحـتويه الانسانية من رقي تجعلها تـفكـر، وتسأل ، وتبحث ، حتى تصل الى المستوى الفكـري والإيماني كما وصل إليه أبراهام . الكنيسة اليوم كمؤسسة ، وكشعـب ، عـليها أن تأخذ مسؤوليتها على مثال أبراهام الكلداني في الحـفاظ على عهدها مع اللـه ، وأن تجعل من رسالتها ووجودها علامة تميزهم في هذا العالم بين شعوب كـثيرة ، كما فعل أبراهام لأبناء عـشيرته في الخـتان كعلامة ، والعهد مع اللـه.
الاب پـيتر لورنس