الجزء الرابع – قـراءة معـمقة للمشروع الخـلاصي بناءاً عـلى نصوص الكـتاب المقـدس
سـفـر التكـوين وقصة الخـلقة
الاب بيتر لورنس
مقـدمة :
قـصة الخلقة في سفر التكـوين (1/1-2/4أ) ، كلما نقـرأها نزداد إنبهاراً وإعجاباً بمحـتواها اللاهـوتي والإيماني ، وتـثير تساؤلات وشكـوكاً أمام الإكـتـشافات العـلمية حول تكـوين الأرض والإنسان منذ ملايين السنين قـبل كـتابتها في القرن السادس قـبل الميلاد ، هي حديثة جداً بالنسبة لتكـوين الكـون والأرض . هـذا يدفعـنا إلى الخوص في عمق هذه النصوص والاستـفادة من الدراسات العـلمية للكتاب المقـدس التي تـفـتح أمامنا الادراك والفهم المنطقي لهذه النصوص في مجال علم اللاهوت ، لكي يفهم الانسان المؤمن حقيقة وجوده ونضوج فكره بما يتوافق مع العلم ونـتائج بحوثه من جهة ، وتطور مجتمعه وفهم مسؤليته امام اللـه الذي يؤمن به من جهة أخرى.
قـصة الخلقة:
عندما نقرأ قصة الخلقة في سفر التكوين كأنها حقيقة فعلية ، نضع انفسنا في شكـوك وتساؤلات أمام العلم واكـتـشافاته ، لذا يجب علينا أولاً ان نعترف انها قصة وليست حـقـيقة ، لها معـنى لاهوتي وايماني تخدم التطور الفكري امام شعب اسرائيل المؤمن بإلهه وتجيب عن تساؤلات شعب يريد ان يفهم سبب وجوده وما هي مسؤولية رسالته في العالم من خلال خلاص مستمر لهـذا الشعب ، ضمن زمان ومكان ، وثقافة وحضارة تحيط به ، تجعله يعَـبر عن ايمانه باللـه بطريقة رائعة كما اوجدها في قصة الخلقة.
قصة الخلقة الفصل 1/1-2/4أ تعـود الى القرن السادس قـبل الميلاد من يد كاتب كهنوتي بعـد عودة اليهود من الجلاء البابلي 587-535 ، أي بعد سقوط مملكة بابل على يد الفرس ، وحصولهم على مرسوم مِن قِـبَـل الملك الفارسي قـورش بالعودة الى ارضهم . بعد عـودة قسم كبير من شعب اسرائيل مع كهنتهم الى ارض الميعاد ماذا وجدوا ؟ ارض يحيطها الخراب ، وهيكل مدمر . لذا يقول الكاتب ان الارض خربة خاوية (توهو وهو) بالعبرية . السؤال الذي طرحه شعب اسرائيل :
من الذي سوف يعمر هذا الخراب ودمار الهيكل ؟ الكاتب الكهنوتي يجيب على هذا السؤال من خلال ثـقافـته البابلية ، ويأخذ اسطورة الخلقة من الحضارة البابلية ، ويقول : ان اللـه الخالق وسبب الوجود الذي اعطى الوعـد لاسرائيل بأن يكون إلههم وهم يكونون له شعب ، هو سوف يعـيد ترتيب هذه الخربطة والدمار بواسطة الانسان الذي هو قمة خلقته ومثاله وصورته على الارض . يرى اسرائيل في عمله المستمر خلال الاسبوع في بناء ارضه وهيكله المقـدس فيها يد الله ، نلاحظ في كل يوم في قصة الخلقة يذكر الكاتب ( ان ما صنعه كان حسن)، هذا يعني في كل يوم عمل اللـه يجدد وعده معهم ، ويجدد خلقته فيهم وإعطائهم الحياة في كل عمل وبناء لهذه الارض الخربة والهيكل المدمر . ويذكر الكاتب في قصته من كل يوم عمل (وكان مساء وكان صباح) ، دلالة على ان الانسان الاسرائيلي يشكر اللـه مساءاً على ما صنعه به خلال النهار من العمل والبناء في انجازه الصورة الحسنة والجيدة في بناء ارض الميعاد وهيكلها المقـدس ، ويمجده صباحاً قـبل ان يبدأ عمله ، لانه يؤمن ويشعر ان يد اللـه الخالق تكون معه لانه هو علة هذا الوجود منذ البدء. اذن ، كلمة الكاتب (وكان مساء وكان صباح) تعني صلاة الانسان الاسرائيلي مساءاً يشكر إلهه ، وصباحاً يمجده . هذا ايضاً نلاحظه في صلاتنا الطقسية في كنيستنا الكلدانية (صلوثا درمشا ، وصلوثا دصبرا) صلاة المساء ، وصلاة الصباح. ونلاحظ ايضاً ان الكاتب يذكر المساء قتبل الصباح ، لان فلسفة الفكر الشرقي ان اليوم الجديد في حياته يبدأ عند استراحة الانسان من عمله خلال النهار.
يذكر كاتب قصة الخلقة ان اللـه استراح في اليوم السابع (شاباث) بالعبرية وتعني استراح . لم يكن اللـه في الزمن البشري إلا بواسطة الانسان ، لان اللـه خارج الزمان والمكان ، وإلّا لم يكن إلهاً . يرى الكاتب اليهودي ان كل ما صنعه خلال الايام الستة من انجاز حسن بواسطة يد إلهه ، يجب عليه ان يفرز يوم ويخصصه ويقـدسه لتمجيد وشكـر اللـه على كل ما حـقـقه خلال هذه الايام الستة من انجاز رائع وحسن بما يخدم مجـتمعه ويطور مداركه الانسانية لحياة افـضل ، من الخراب والدمار الذي سببته خطيئته فيما مضى.
خاتمة:
هكذا يجب ان نقرأ قصة الخلقة في عالمنا اليوم ، بعد ان نفهم معنى وسبب وجودها بصورة لاهوتية وايمانية صحيحة . منها ينطلق الانسان نحو عمل وبناء في الارض التي يتواجـد عـليها الانسان ، وهو يؤمن ان يد اللـه تكون معه في كل عمل حسن وجيد يقوم به لاجل تطوير مجتمعه ، وتجعله رائع في ابداعه ، حتى تظهـر من خلاله صورة اللـه التي وضعها في الانسان منذ البدء.
طرح رائع ومبهر لحقائق الأمور تعم بالفائدة وتنيرالعقل
حفظك الله أبونا بيتر وأطال في عمرك
الأب الفاضل بيتر، شكرا على هذه القراءة المعمقة للمشروع الخلاصي حسب نصوص الكتاب المقدس
كالعادة، يتناقش الناس في جلساتهم العائلية او في المجتمع بين بعضهم البعض عن ما يجري في الكنيسة، ومن بين المواضيع حول الكرازة… وهي الموعظة التي يشرح فيها الكاهن او الاسقف قراءة النص الانجيلي (واحيانا ما يتزامن معه من مناسبات وتذكارات حسب التقويم الليتورجي) … واغلب الناس تراهم يشتكون عن الكرازة واسلوب الكاهن او الاسقف بالاخص لو تعمق بما هو اكثر من مستوى القراءة الحرفية… وكأنهم في درس القراءة والمحفوظات… (كل مواعظ يسوع كان مفهومها ما وراء الحروف)…هذا ويبقى الشرح اللاهوتي للنص (صعباً للهضم) لا يستفيد منه او يستلذه إلا ذلك المؤمن الذي يتابع فكرة الواعظ التي من خلالها، وكما تطرقتَ في شرحك، يوصلنا الى المعنى اللاهوتي الذي تظهر من خلاله صورة اللّـه التي وضعها في الانسان منذ البدء… وهي بالضبط كما بينتَ بأنها تزيدنا انبهارا واعجابا كلما تعمّقنا فيها، ولكن ليس شرطا ان تثير شكوكا او تساؤلات لدى كل مؤمن، حيث هناك مَن يكتفي بما توصّل اليه من فهم يُشبع عقله البشري بدرجة اته مقتنع ان الانسان مهما تعمق وفهم اكثر واكثر… فهو مجرد انسان لا يُمكنه او ربما لا يحق له ان يصل الى مستوى معرفة كل شيء واقصد هنا الى مستوى العقل الإلهي