سعد توما عليبك
تمر علينا هذه الايام الذكرى السابعة والأربعون للمجزرة النكراء التي نفذت بحق ابناء شعبنا الكلداني المسالم في قرية صوريا الكلدانية التي راح ضحيتها العشرات من الابرياء اطفالاً ونساءاً و شيوخاً بالاضافة الى العشرات من الجرحى والمعوقين. هؤلاء الأبرياء لم يكونوا مسلحين او مفتعلين لأعمال تقلق وتزعج النظام الفاشي الحاكم في حينه، ذنبهم الوحيد هو ان قريتهم المنكوبة كانت تقع على طريق سير القوافل العسكرية التي يتحكم بقيادتها جلاوزة النظام المتعطشة للدماء، ليصبحوا ابناءها بذلك صيداً سهلاً لوحوش كاسرة دون رحمة او وخزة ضمير او مخافة الخالق.
هكذا اصبح اهالي صوريا الابرياء ضحية حقد وغرور الاوغاد، فرَوَو تراب قريتهم بدمائهم الزكية، ليسطر التاريخ عن امة الكلدان العريقة، سِفراً آخراً في الشهادة، ولتبدأ من بعدها المجازر والمذابح بحق العراقيين جميعاً بكافة قومياتهم ومذاهبهم.
بهذه المناسبة الاليمة ترجع بنا الذاكرة الى قرية صوريا الشهيدة وتستحضرنا بعض تفاصيل المذبحة في ذلك اليوم المشؤوم حسب ما روى عنها زوارها و شهود عيان وسكان القرية المغلوب على أمرهم:
تقع قرية صوريا (113كم شمال الموصل) في الجنوب الغربي من السهل السليفاني وعلى ضفاف نهر دجلة. مركزها الاداري هي ناحية العاصي (باتيل حاليا) في قضاء زاخو في محافظة دهوك/ العراق.
اسباب المذبحة:
كان مقر الفوج العسكري في مركز ناحية السليفاني”عاصي” سابقاُ ، وفي صباح كل يوم ثلاثاء كانت هناك مفرزة تخرج من العاصي متوجهة الى قرية فيشخابور في المثلث الحدودي (العراقي السوري التركي)، وكانت هذه المفرزة تمر بعدة قرى في السهل السليفاني ومن ضمنها قرية صوريا الكلدانية.
وفي صباح يوم الثلاثاء 16/9/1969 مرت المفرزة المؤلفة من (اربعة عجلات) (حيث كانت هذه المفرزة بأمرة الملازم ثاني عبد الكريم خليل الجحيشي) كعادتها بهذه القرى ووصلت الى قرية صوريا ومكثت المفرزة بعض الوقت في القرية ورحب بهم اهالي القرية وقدموا لهم ما وجد لديهم من مأكل ومشرب. وبعد مغادرة المفرزة لقرية صوريا وعلى بعد حوالي خمسة كيلومترات انفجر لغم تحت احدى عجلات المفرزة. ولم يحدث الانفجار اية اضرار بشرية بالمفرزة. أمر الملازم عبد الكريم الجحيشي بالتوجه الى قرية صوريا ثانية وجمعوا اهالي القرية في حضيرة للحيوانات وقام الجنود بتنفيذ اوامره وتم تطويق القرية من قبل الجنود وكان في نفس اليوم قد وصل القس حنا بيث قاشا من زاخو الى القرية.
وعن تفاصيل المذبحة يقول احد الناجين من ابنائها واسمه هرمز: « عندما كان الجنود يجبرون سكان القرية باعقاب وحراب بنادقهم كان البعض يفكر بالفرار الا ان الاب حنا قاشا الذي لم يدرك بان وحوشا كهؤلاء وسادتهم في بغداد ليس لهم مثيل على هذه الارض على الاطلاق، نصح بعدم القيام بهذه المحاولة وطلب من سكان القرية ان يتجملوا بالصبر ويركنوا الى الهدوء وبعد لحظات حينما أتم الجنود جمع سكان القرية سحب الملازم الجحيشي اقسام رشاشه. في هذه اللحظة ادركت «ليلى» ابنة المختار ما سيحصل فقفزت عليه وامسكت بماسورة الكلاشينكوف بقوة وحينما ادرك الملازم استحالة انتزاع الغدّارة من قبضتها سحب مسدسه واطلق النار على رأسها فأرداها قتيلة في الحال، ثم بدأ باطلاق النار من رشاشه على المدنيين من دون تمييز وكلما نفذت رصاصاته استبدل مخزن الرشاش بمخزن جديد وراح يواصل اطلاق النار حتى اذا ما تأكد بأنه لم يبق انسان قائما امامه اصدر اوامره الى الجنود المحيطين به بأن يبقروا الاجساد المثخنة بالجراح بحراب بنادقهم ويضرموا النار في بيوت القرية والسور المحيط بها لكي يحولوا دون محاولة بعض الناجين من الفرار.
“هرمز” يكبح دموعه ويلوذ بالصمت لثوان عدة ثم يقول: « لقد كنت اشعر بانني كنت ادفن تحت اكداس من الاجساد التي كانت تسقط تحت وابل الرصاص. والمشكلة الكبرى التي واجهناها بعد هذه المذبحة انقاذ الجرحى والعثور على بعض منهم ممن هام على وجهه في البراري.
سكان القرية المجاورة الذين هبوا لانقاذ الجرحى واوصلوهم الى المدن القريبة جوبهوا برفض مسؤولي المستشفيات تقديم العلاج لهؤلاء الضحايا ولولا تدخل بعض الاطباء والشخصيات المحلية – بعضها طبعا – المتنفذة لما تم ادخالهم الى غرف العمليات واجنحة هذه المستشفيات والكثير من الاطفال الذين نجو من هذه المجزرة باعجوبة تشبثوا بجثث ذويهم واخوتهم لساعات طويلة ولم يفارقوا مكان المجزرة الا بعد ان فصلوا عن الجثث بقوة، في هذه الاثناء كان الجنود يمنعون الناس من الوصول الى موقع الجريمة لدفن الموتى وتركوا أجساد الضحايا لمدة ثلاثة أيام وثلاث ليال كاملة ما جعلها فريسة الطيور الكاسرة والكلاب السائبة.
ويقول الكاتب “شوقي بدري” في وصفه لاحداث المذبحة : (( انه فى 16 ايلول1969 حدثت مذبحه صوريا فى بدايه وصول صدام للسلطه . فلقد انفجر لغم فى سياره عسكريه بالقرب من قريه صوريا . وبالطريقه النازيه التى كان يمارسها الالمان فى البلاد المحتله اتجه الجيش لاقرب قريه وجمعوا كل الناس وطلبوا منهم ان يأتوا بمن وضع اللغم . ولم يشفع لهم قولهم بانهم فلاحون مسيحيون ليس لهم درايه باستعمال السلاح . وتصادف ان كان القس فى زياره الى القرية، فحاول ان يتوسط ويناشد الضابط عبد الكريم الجحيشي فقال الضابط لرجاله بما معناه ( هذا الكلب الاسود ارموه اولاً ) . اشاره الى رداء القس الاسود .
فى زيارتى للقرية (لا زال الكلام للكاتب المذكور اعلاه) تحدثت مع العجوز بطرس والشاب عماد، ووسط شعور الالم والاحساس بالمراره تكونت عندى صوره واعطونى كتيب مذبحه صوريا باللغه الكرديه . وما عرفته منهم ان ابنة المختار ليلى اندفعت تستجدى الضابط عبد الكريم لكى لا يقتل والدها المختار، الا ان الضابط اطلق النار على والدها وصرعه فهجمت ليلى عليه وانتزعت رشاشته فقاموا بقتلها وعقاباً لها أُلقيت فى النار بعد ان احرقوا القريه .
ولم يكتفي المجرم القاتل بهذه الجريمةالبشعة، بل اعطى اوامره للجنود بحرق المحصول الموجود في كل بيت و قتل المواشي في القرية. ومات عدد كبير من الجرحى نتيجة اصابتهم بحروق و عدم استطاعتهم الهرب من القرية.)).
بعد تنفيذ المجرم الجحيشي وجلاوزته لهذه الجريمة الشنعاء لم تشبع غريزتهم، بل راجعوا مستوصف ناحية العاصي و امروا موضفي المستوصف بعد اسعاف الجرحى، وفعلاً نفذت اوامره خوفاً من بطشه و تهديداته.
ومن اللذين نجوا من المذبحه الطفل سمير الذى لم يزد عمره عن اربعين يوماً وجدوه حياً بين الجثث فى اليوم الآخر وكانت امه قد حمته بجسمها. اما والده منصور وشقيقته سميره فلقد تصادف انهما كانا فى بلدة زاخو الكبيره .
ولنستمع الى ما قاله المرحوم البرزانى*5 عن هذه الجريمة فى احدى مذكراته الى هيئه الامم المتحده ..( وابيد فى يوم 16 ايلول 1969، 97 مواطناً قتلاً وجرحاً هم كل سكان قريه صوريا غرب زاخو. وقذف الجنود بالاطفال منهم وهم فى مهودهم الى الماء فغرقوا فى النهر. وكان القس الكلدانى حنا قاشا بين القتلى ايضاً).
وعندما نستذكر شهداء صوريا ، تحضرنا قصص و صور الشهادة لأبناء هذه الأمة العريقة خلال العصور التي توالت بعد سقوط المملكة الكلدانية 539ق.م و الى وقتنا الحاضر، كمذابح الملك الفارسي شاهبور في سنة 339م والتي امتدت نحو اربعة عقود من الزمن ، وثم مذابح التتر والمغول سنة 1258م وصولا الى مذابح السلطان عبدالحميد منذ سنة1895م و ما بعدها و التي شملت (مذابح و قتل الآلاف في قرى علي بكار و نصيبين*6 و القوافل في 10 ،11 ،15 حزيران 1915، و مذبحة سعرت و شهادة المطران أدي شير*7 في 17 حزيران 1915، و مذبحة حوزة و باتة*8 بين الاعوام 1914-1916م ، مذابح نصيبين و دارا في 15 حزيران في العام 1916م.
وكذلك كل الذين استشهدوا بعد تأسيس دولة العراق ، الى ضحايا صدام وزمرته في حروبهم المتعددة ثم احداث السنوات الاخيرة التي شهدت هجمات شرسة من قبل الارهابيين و قوى الشر و الظلاميين الراديكاليين ضد الكلدان و التي شملت تفجير الكنائس و خطف و قتل المئات من ابناءه منهم الأب الشهيد رغيد كني و رفاقه الشمامسة وحيد و بسمان و غسان في الموصل بتاريخ 3/6/2007 ، و استشهاد مرافقي المطران رحو اثناء اختطافه ، سمير وفارس و رامي في الموصل بتاريخ29/2/2008 . ثم استشهاد المطران مار بولص فرج رحو في 13/3/2008، و شهداء كنيسة سيدة النجاة في 31 تشرين أول 2010، و من ثم جرائم داعش بعد احتلاله لموصل و البلدات الكلدانية في حزيران 2014. بهذه الذكرى الاليمة نشعل الشموع على الارواح الطاهرة لشهداء أمتنا الكلدانية. مبتهلين الى الرب ان ينعمهم في ملكوته حيث الملائكة و القديسين ، و نضع اكاليل الزهور على أضرحتهم اكراماً و اجلالاً لدمائهم الزكية التي اريقت على تراب هذه الارض المقدسة من اجل زرع بذرة المحبة و السلام في قلوب ابناءه.
لنجعل من ذكرى مذبحة صوريا ، هذه المحطة المؤلمة من تاريخ امتنا الكلدانية، رمزاً خالداً و يوماً مميزاً و تذكاراً للآلاف من شهدائنا الابرار الذين ذبحوا و أُعدموا بمزاج تفوقي عنصري وبطريقة وحشية، فهذا اقل واجب يمليه علينا ضميرنا تجاه التضحيات الكبيرة وملاحم الشهادة التي سطرها ابناء امتنا على مر العصور.