نشرت كتابات وبثت تصريحات بمناسبة مئوية اتفاقية «سايكس – بيكو»(1916 – 2016)، ويغلب على الظَّن أن العديد مِن أصحاب تلك الكتابات والتَّصريحات لم يطلعوا على أصل بنود الاتفاقية السِّرية بين البريطاني سايكس(ت1919) والفرنسي بيكو(ت1951)، وما شأنها والعراق. لاحقاً دخلتها روسيا القيصرية طرفاً ثالثاً، وبعد انتصار الثَّورة بروسيا فضح الثُّوار بنودها، فاتخذت الأحزاب الشّيوعية العربية مِن ذلك منطلقاً لتحبيب الاتحاد السُّوفييتي، على أنه مع تحرير العرب مِن الاستعمار.
ذكر الشَّيخ الخالصي (ت1963): إنه «اطّلع على رسائل لينين المتبادلة مع شخصيات إيرانيّة دينيّة. ومنها أنّه ليس لدى البلاشفة مخططات حول الشَّرق، وأنّ كلّ ما يرغبون فيه هو تحرير البلدان الشرقيّة من العبوديّة والحكم الاستعماريّ؛ وأنّه ليست لديهم نية للتدخل في شؤوننا الداخليّة أو معارضة مسلمي العراق في دينهم» (بطاطو، كتاب العراق).
لاتهمنا في المقال «سايكس – بيكو»، وما في بنودها مِن تقسيم شرقنا إلى منطقة خضراء وأخرى حمراء، بقدر ما نثير السؤال: هل نُفذت «سايكس بيكو» على العراق، وغيرت في جغرافيته القديمة، ولنقل منذ العهد الإسلامي؟ نقول: لا، وما هذا إلا كلام شائع تتناقله الألسن. أما ظهور دول وطنية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية وقبلها الإيرانية، فهذا أمر حتمي، لا يعجب الإسلاميين المنادين بالخلافة الإسلامية، التي انتهت ( 1924).
كذلك ظهور الدّول الوطنية لا يعجب القوميين العرب، فبادروا عند تسلمهم السلطة، بهذا البلد أو ذاك، إلى تسمية الأوطان بالأقطار، وجاروا على القوميات الأُخر. مع علمنا أن الامبراطوريات كانت سمة ذلك العصر. فماذا كانت الدُّول الأوروبية، أليست ضمن الإمبراطورية الرومانية؟ وهل كان لدولتي تركيا وإيران الحاليتين وجوداً خارج الكيان الصَّفوي والعثماني؟ وماذا كانت مصر قبل انفصالها عن الدَّولة العثمانية بزعامة محمد علي باشا (ت1848)، أليست إقليماً؟ فلماذا يركز على العراق دون غيره؟
نسمع، بين الفينة والأخرى، تصريحاً لرئاسة الإقليم مهددة بإعلان الدَّولة الكردية، وكان آخر التصريحات بمناسبة مئوية الاتفاقية المذكورة، مع أنها لم تتناول شأن الكُرد، ولم يُنفذ شيء منها على العراق، فليست «سايكس – بيكو» جعلت المنطقة الكُردية ضمن العراق، إنما معاهدات تلتها أعطت وعوداً للكُرد بدولة كردية.
قام العراق الحالي، بقومياته كافة، على جغرافيا معلومة قديماً، فكانت حدوده صعوداً مِن أعلى الموصل ونزولاً إلى عبادان: «السَّواد وهو العراق، فقالوا حده مما يلي المغرب، وأعلى دجلة من ناحية آثور وهي الموصل القريتان، القريتان المعروفة أحدهما بالعلث من الجانب الشَّرقي من دجلة وهي من طسوج مسكن، ومن جهة المشرق الجزيرة المتصلة بالخليج العربي المعروفة بميان روذان من كورة بهمن أردشير وراء البصرة» (المسعودي، التنبيه والأشراف).
بين هذه الحدود نظم مدحت باشا (قتل1883) العراق إدارياً، ضمن هذه الحدود، بتقسيمه إلى عشرة سناجق (ألوية): بغداد، شهرزور (كركوك)، سليمانية، الموصل، دليم، كربلاء، الدِّيوانية، البصرة، العمارة، المنتفك، وكانت أربيل قضاءً تابعاً لشهرزور (النَّجار، الإدارة العثمانية عن الزَّوراء 12 ربيع الأول 1286). أقرَّ العهد الملكي التقسيم الإداري نفسه، مع جعل بعض الأقضية أولوية، كأربيل مثلاً.
لا يُكثر على كُرد العراق المطالبة بدولة كردية، لكن ماذا عن كُرد إيران وقد صفت السلطات الإيرانية الإسلامية القيادة الكردية، وماذا عن تركيا التي يعيش بها ملايين الكُرد؟ وعن كُرد سوريا؟ هل يُصرح ذلك لأن العراق الآن واهناً كبيت العنكبوت، وكأن وجهاء الكُرد لم يكونوا أحد مِن بُناته؟ نعم حصل تجاوز، مِن اعتقال إلى أنفال، لكن هذا الأمر انتهى ولم يسلم منه بقية العراقيين، وتحققت الأحلام ضمن الفيدرالية، التي بدأت تظهر (1992) وليس أقدم، أما قبل ذلك فكان المطلب الديمقراطية للعراق والحكم الذَّاتي لكردستان.
لم تكن مئوية «سايكس – بيكو» مناسبةً للتصريح بنية الانفصال، لأنها لم تضم رأس العراق (شماله) لبقية بدنه، بل كان ضمن حدوده الموجودة مِن قبل ولادة الوزيرين: سايكس وبيكو بقرون، وتحت هذا الشُّعور المنتمي إلى العراق صوتَ الكُرد، عند الاستفتاء على الموصل، ضد قطعها عن العراق، بعد تفكك الدَّولة العثمانية، برواية ودراية أن حد العراق من آثور الموصل إلى عبدان البصرة، مثلما حدد نهاياته الأولون. هذا وفق حقيقة التَّاريخ وثبات الجغرافيا.
أظن أن الكُرد العراقيين يشعرون بالانتماء لهذا الوطن، وأن الاستقرار على هذا الانتماء، بالصيغة التي اختاروها، يجنبهم وبقية العراقيين القلق والجري وراء السَّراب. أما إذا كان الإصرار على الطَّلاق فلينفذ الآن؛ فلا أظن لبغداد الركيكة عصمة مِن انفصال ولو قرية. أقول: ليس مِن داعٍ لاتخاذ «سايكس بيكو» ذريعة، مع أنها بخصوص العراق مجرد شماعة.
صحيفة الاتحاد