عاد الجدل حول موضوع تأسيس إقليم للسنة في العراق على غرار إقليم كردستان إلى الواجهة في خضم المناقشات حول إرساء نظام سياسي جديد في البلاد يتجاوز حالة التمييز الطائفي في مرحلة ما بعد تحرير كامل التراب العراقي من سيطرة تنظيم داعش الإرهابي. ولأهمية هذا الموضوع سيتم تناوله على عدة محاور. الأول ما هي دوافع المنادون بالإقليم السني، وعلى أي أساس قانوني استندت تلك الدوافع، ثانيا: ما موقف العراقيون من هذا الطرح، ثالثاً: ما هو الموقف الإقليمي والدولي من إنشاء هذا الإقليم، وما هو البديل لإنشاء الأقاليم في العراق؟
لم تتوقف هواجس التقسيم في العراق منذ أن وطئت أقدام المحتل الأميركي أرضه عام 2003 حتى اليوم، وهي تخفت تارة ثم تعود للتداول تارة أخرى، وفق ظروف التصعيد السياسي السلبي بين مكونات العملية السياسية المتراجعة، أو خلال وبعد الانهيارات الأمنية التي ما انفكت تلاحق العاصمة بغداد ومحافظات العراق التي وسمت “بالسنيّة”. وإزاء تزايد المشاكل التي عانى منها عشرات الملايين من العراقيين، وعجز الحكومة عن القيام بواجباتها في توفير الخدمات والأمن للعاصمة والمحافظات، وفي ظل التشرذم الطائفي والسياسي الذي يشهده العراق، فإن الصوت “الخجول” المطالب بالإقليم أو “الفدرلة” بدأ برفع وتيرة الحديث عن هذا الأمر، مستندا إلى المادة (119) من الدستور العراقي الذي صيغ في غضون ثلاثة أشهر بأمر من الحاكم المدني الأميركي بول بريمر في عام 2004، والتي نصت على أنه “يحق لكل محافظة أو أكثر تكوين إقليم بناء على طلب بالاستفتاء عليه يقدم بإحدى طريقتين: أولا طلب من ثلث الأعضاء في كل مجلس من مجالس المحافظات التي تروم تكوين الإقليم. ثانيا طلب من عُشْر الناخبين في كل محافظة من المحافظات التي تروم تكوين الإقليم”.
إن الأحداث التي وقعت في العراق قبل ومع نهاية فترة ولاية رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، والمتمثلة في فك الاعتصامات المدنية السلمية في الحويجة والرمادي والفلوجة وغيرها بالقوة المسلحة والدم، ثم إخفاقه غير المفهوم في التفريط بأكبر محافظات العراق بجزئه الشمالي (نينوى وصلاح الدين وأجزاء عديدة من الأنبار وديالى) لصالح تنظيم داعش الإرهابي، وزيادة وتيرة التعامل الطائفي العلني مع سكان هذه المناطق من خلال السلوك الحكومي من جهة، وتصرفات التشكيلات الطائفية التي ضمها ما يسمى “الحشد الشعبي” تجاه أرواح وأعراض وممتلكات المواطنين فيها من جهة أخرى، كل ذلك دفع بشكل مبرمج ردود أفعال الناس هناك إلى القبول بما كانوا يرفضونه بشكل قاطع، الانفكاك عن سلطة الكل إلى سلطة الإقليم. وجدير بالذكر أن رئيس المجلس الإسلامي الأعلى الراحل السيد عبد العزيز الحكيم كان في مقدمة المنادين بتأسيس إقليم أطلق عليه إقليم الوسط والجنوب يضم المحافظات الشيعية وذلك في عام 2005، وإبراهيم الجعفري دعا إلى تأسيس اقليم شيعي لكن هذين المشروعين رفضا لقيامهما على أساس طائفي وليس إداري. وبالرغم من إن العرب السنّة على مر التاريخ لم يكونوا من دعاة التقسيم والانفصال بل مع بقاء العراق موحداً ويرفضون أي محاولة لتقسيمه حتى لو كانت ضمن الاطار الدستوري، فان ما لاقوه في مرحلة ما بعد عام 2003م دفعهم للتفكير بمشروع يحفظ للعرب السُنّة كرامتهم ودماء ابنائهم، لأن السنّة طبقا لقراءة تاريخية لم يتحدثوا عن أنفسهم بوصفهم سنّة بل كانوا يتمسكون بمفاهيم الوطنية العراقية والقومية العربية.
وإزاء ذلك انقسم العراقيون بشأن تأسيس إقليم سُني بين مؤيد ومعارض، فالمؤيدون له يرون فيه حلا لشعورهم بـ”الإقصاء والتهميش والاستهداف والاعتقالات العشوائية”، التي يقولون إنها تطالهم من الحكومة والخلاص من مشكلات معقدة في الواقع العراقي. فهو حالة ضرورية للتوصل إلى حلول وطنية وفقا للدستور الذي اقر حق تشكيل الأقاليم الإدارية. ويؤكدون أن العرب السنة مع وحدة العراق وهم من دفع الأثمان الباهظة في سبيل هذه الوحدة، فتأسيس الإقليم من وجهة نظرهم من أجل المحافظة على وحدة العراق وليس كما يظن البعض مدخلا للانفصال والتقسيم.
فالتخندق الطائفي والقومي في العراق بعد 2003 خلق تيارات مختلفة حيث اعتبر الشيعة أنفسهم مظلومون تاريخياً ويريدون رفع الظلم، ونفس الشئ انطبق على الأكراد ما ترك السنّة يواجهون حيرة في تحديد صفتهم للدفاع عن طائفتهم واختاروا مؤخراً الحديث صراحة بلسان السنّة، من خلال تشكيل جبهة سنية واسعة واقترحو قيام مشروع (مارشال عراقي) لاعمار محافظاتهم التي دمرها الارهاب والعمليات العسكرية، وتشكيل لجان لإحصاء وكشف الإجراءات الحكومية بحق أهل السنّة من خلال توثيقها ومخاطبة المجتمع الدولي والعربي من أجل طلب المساعدة في تلبية مطالبهم، ربما تمهيداً لتاسيس الاقليم السني.
وحتى معارضي فكرة الاقليم يؤكدون ان الحكومات العراقية المتعاقبة منذ 2003 مارست سياسات متنوعة ادت الى اضعاف (فكرة دولة المواطن) وجعلت (فكرة دولة المكونات) واقعا سياسيا معاشا ليكون (التحدث بأسم الطوائف والمكونات) واقعا عراقيا لاعيب فيه. ان مناداة قطاع مهم من جمهور الانبار وعدد اقل من جمهور الموصل وصلاح الدين وديالى وكركوك بانشاء الاقليم السني لم يكن نتيجة قناعة نابعة من حاجتهم لهذا الاقليم كخلاص من معاناتهم بقدر ماهو رد فعل على سياسة التهميش الطائفي، وربما يحاول بعضهم تمرير اجندة التقسيم.
واسهمت البنية الديمقراطية الهشة في البلد وضعف مؤسسات الدولة المركزية والبناء غير المتوازن للجيش والاجهزة الامنية، بجعل فكرة الاقاليم التي أقرها الدستور على اساس اداري واقتصادي تتحول الى اقاليم على اساس عرقي وطائفي. وفي ضوء حجم التناقضات العقائدية والمشاكل الجغرافية والتوجهات السياسية وغيرها والاحتقانات التي افرزتها المرحلة السابقة، فان بقاء هذه الاقاليم ضمن دولة مركزية واحدة تبدو امرا بعيد المنال.
أما المعارضون لنشوء الإقليم السني فيرون فيه مقدمة لتقسيم العراق على أساس طائفي وقومي، لأن إقليم السُني سيُبنى على أساس طائفي وإن لم تكن هذه غايته لجهة أن معظم أبناء هذا الاقليم يتبعون طائفة دينية واحدة وبذلك يؤسس في العراق فدرالية طائفية وليست فيدرالية إدارية، وهذا الأمر من شأنه أن يفتح الباب لحروب أهلية مستقبلية ذات طابع طائفي وقومي. فعند التمعن بحيثيات الفيدرالية الطائفية والقومية تجد بانها عبارة عن مرحلة جديدة من الألم والدم وتزداد تلك القناعة عند تأمل خرائط الاقاليم الطائفية والأثنية التي تطالب بها الأطراف المتناحرة حيث تجد الخلاف قائم فيما بينها حول الحدود الادارية لتلك الاقاليم فالمناطق المختلطة بين اقليم كردستان ومحافظات نينوى وديالى وصلاح الدين وكركوك يعتبرها الأكراد تبعا لاقليمهم ودولتهم المقبلة فيما يراها السنة جزءا من محافظاتهم واقليمهم الموعود مع عدم معرفة مصير سنة بغداد والجنوب وفي المقابل لا نجد لمروجي ما يسمى باقليم الوسط والجنوب أو دولة سومر فكرة عن مآلات مناطق ذات غالبية شيعية مثل تلعفر وطوزخرماتو واذا ما افترضنا ضم الدجيل وبلد للحدود الادارية لمحافظة بغداد فماهو وضع مدينة سامراء السنية التي تتوسطها مراقد شيعية؟ وكيف سيتم التعامل مع أهلها اذا مارفضوا الخضوع لحكم شيعي؟ وهو الراجح اذا ما بات التقسيم أمرا واقعيا، هل ستتم ابادتهم أو تهجيرهم؟ أو تتدخل داعش لهدم المراقد انهاء للمشكلة من وجهة نظرها، ان سامراء وحدها كفيلة باشعال حرب طائفية ل40 عام على غرار حرب البسوس كما كانت هي ذاتها السبب في الحرب الطائفية عام 2006، كما لايمكننا اغفال وضع العاصمة بغداد والتي تتصدر الكاظمية المقدسة جانب الكرخ السني(نظريا) منها فيما تتربع مدينة النعمان الاعظمية في قلب الرصافة الشيعية (نظريا) والتي ستكون في ظل النظام الفيدرالي المراد تطبيقه مجرد عاصمة ضعيفة سياسيا واقتصاديا وليس لديها سلطة فعلية على الاقاليم والتي منحت من الصلاحيات مايجعلها دولة داخل الدولة بل انها لاتستطيع ارسال قواتها العسكرية للاقليم(وهو أحد الأسباب الرئيسية لمطالبة بعض القوى السنية بالفيدرالية)، والرؤية حول بغداد تختلف بين الفيدراليون الشيعة والذين يضعونها ضمن مايسمى باقليم الوسط والجنوب فيما يرى نظرائهم السنة تحييدها وجعلها عاصمة مركزية ليست منضوية تحت اي اقليم في ظل استحالة تقسيمها ، ويبقى السؤال المطروح حول مصير باقي الاقليات الأثنية والدينية الصغيرة؟ والتي يبدو بان تهجيرها خارج العراق هو الخيار الراجح!
ومن جانب آخر أن انشاء اقليم السنة سيشجع مناطق اخرى في الوسط والجنوب الى اعلان اقاليم يضم كل منها عدد من المحافظات المتصلة والمتجانسة مع بعضها، فالتحالف الشيعي الحاكم مشتت الرؤى حول جملة من المواضيع وخروج السنة من المشهد سيركز الجدال حول مكامن الخلاف بين مكونات التحالف الشيعي وسينفجر ذلك بشكل دعوات لاقاليم اخرى. والاقليم المرشح للظهور قبل غيره هو اقليم البصرة لاعتبارات اقتصادية وسياسية وتاريخية، فتكامل اقليم البصرة -الذي ينتج يوميا ثلاث ملايين برميل نفط- مع محيطه الخليجي اكثر فائدة لها من اندماجه باقاليم مجاورة يتحمل اعباء تنميتها ومشاكلها. كما أن هناك جدل دائر في محافظة كركوك بشأن موضوع الاقليم فرأي يرى بضرورة الانضمام إلى اقليم كردستان العراق ورأي آخر يفضل الاستقلال.
ان مناقشة موضوع الفيدرالية أو فكرة الإقليم في العراق لايستوي مع عدم التطرق لمواقف الدول الكبرى والأقليمية المؤثرة في المشهد العراقي فالولايات المتحدة الأمريكية وعلى الرغم من طرح جو بايدن نائب رئيس الامريكي فكرة تقسيم العراق إلا أن الإدارة الأمريكية أعلنت قبل عدة أيام رفضها فكرة قيام الأقاليم في العراق فهي تدرك أن قيام هذه الاقاليم بهذه المرحلة الحرجة والصعبة من تاريخ العراق يعني مزيدا من الحروب الأهلية والتفتت والتشرذم. أما الدول الغقليمية فايران تعارض بشدة الاقليم السني والدولة الكردية لانها تدرك انها لن تكون بمنأى عن التأثيرات السلبية لتقسيم العراق وهي الدولة المتعددة الأعراق والأديان والمذاهب كما ان هذا التقسيم سيحرمها من التواصل الجغرافي مع سوريا التي ستفقد هي الأخرى الجانب الشمالي الشرقي من أراضيها لصالح دولة علوية تربط دمشق بالساحل، والمملكة العربية السعودية مع عراق موحد فأي تقسيم له سيجعل من إيران جارة لها، وهذا له تداعياته السلبية على الداخل السعودي بينما تركيا أردوغان تبدو مواقفها هي الأقرب للفيدرالية العراقية الطائفية وهي داعم رئيسي للاقليم السني العراقي الذي سيكون عبارة عن اقطاعية تركية سيلحق به شمالي شرقي سوريا ذي الغالبية السنية والذي تبدو فرصة بشار الاسد باستعادته معدومة حتى لو تم طرد تنظيم الدولة منه كما ان أنقرة قد تمكنت من تكييف نفسها مع امكانية قيام دولة كردية في شمال العراق شريطة عزل الأمر عن محادثات السلام الكردية التركية وعدم التطرق أصلا لملف أكراد سوريا.
ومن هنا نعيد ونكرر ان العراق بحاجة لصيغة تعايش مشتركة جديدة تنهي أوجاع الماضي وتحافظ على وحدة الدولة ففكرة التعايش السلمي تمر بأسوء أوقاتها نتيجة حمامات الدم التي أريقت باسم الطائفة والتي ولدت حالة من عدم الثقة ان لم نقل الخوف من التعايش مع الطرف الأخر خصوصا مع امتلاك كل فريق لجماعات مسلحة أمتهنت استهداف الفريق المخالف ومما لاشك فيه ان الفيدرالية أحدى أرقى الانظمة الادارية الحديثة وأكثرها تقدما ومعمول بها في أغلب دول العالم الأول وهذه الاطروحات كثيرا ماسمعناها من مروجي الفيدرالية الطائفية الذين يتعاملون مع الموضوع على طريقة (ولاتقربوا الصلاة) دون أن ينظروا الى أسباب نهضة هذه الدول ونجاحها في مسيرة صعودها والتياستمرت مايقارب من القرنين للوصول الى ماهي عليه اليوم من الوعي الحضاري والنضج السياسي واحترام الحريات العامة والخاصة والايمان المطلق بمبادئ حقوق الانسان وبالديموقراطية فكرا وسلوكا وبأهمية التداول السلمي للسلطة (وهي أمور لانمت لها بصلة من قريب أو بعيد) ناهيك عن كون هذه الفيدراليات قائمة على أسس ادارية لا طائفية ولا عرقية فلا توجد في الولايات المتحدة مثلا ولاية للزنوج وأخرى للبيض وهذه للاتينيين وتلك للعرب
ومن أجل عراق موحد فلابد من اصلاح المركز والقضاء على الفساد والمحاصصة كان ولازال هو بديلنا الاول للنهوض بكل العراق. وتوعية الجماهير لانتخاب الاكفاء النزيهين في المحافظات وفي الادارة المركزية هو سبيلنا لذلك بالاضافة الى تقديم ودعم القيادات المدنية والعلمانية المؤمنة بوحدة واستقرار وتطور البلد. اما البديل المباشر للافكار والنزعات الاقليمية فهو تفعيل دستورنا الحالي الذي يؤكد على اللامركزية في الحكم وتوزيع السلطات والثروات بين كل ابناء الشعب يصورة عادلة. ولاننسى ان قانون اللامركزية الذي دعى له الدستور منذ 10 سنوات لم يتم التوافق عليه واقراره الا منذ ايام او اسابيع قليلة. وعلينا حث ومراقبة حكومتنا وبرلماننا المنتخبين لضمان تطبيق القانون. اما محليا فعلينا نقد ومراقبة وتنشيط مجالس المحافظات المنتخبة ديمقراطيا ايضا تحت تهديد عدم الانتخاب ثانية. وكشف الفساد والفشل والتقصير والمحاباة اينما وجد. وتفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني وباقي الهيئات الرقابية التقويمية المدنية التي نعرفها او نستجدها. عندها فقط سنشعر بالانجاز وسنلمس التطور الذي نسعى جميعا له. وما لانستطيع تحقيقه ضمن امكاناتنا الحالية لن توفره لنا الاقاليم مجانا بل ستزيد علينا الاعباء.
فالعراق الموحد هو النظام السياسي الأفضل للعراق في الوقت الراهن وهي الضامن الحقيقي لاستمرار وحدته الجغرافية ولتحقيق الرخاء الاقتصادي والموازنة بين حقوق جميع المكونات وتحقيق الشراكة الحقيقية في بناء البلد انسجاما مع الاتجاه الاداري اللامركزي الواسع الذي أصبح هو السائد سياسيا في مختلف دول العالم بعد انهيار أنظمة الحكم الشمولية وهي الخيار الذي يجب أن ترنوا اليه الأنظار لمعالجة اشكالية الحكم في العراق واعادة ترميم النسيج الاجتماعي والمحافظة على بقاء الدولة ومقدراتها. فالأقاليم القائمة على أساس طائفي وقومي لا تنجح في العراق وإنما الذي ينجح هو إقليم العراق الموحد.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية