المقدمة : عندما بدأنا ننشر ما تعانيه كنائسنا من جهالة وتدنيس واحتلال من قبل مجموعات عصابية وضعف قيادة الكهنة من أصحاب المصالح الشخصيّة ، لم تكن غايتنا التسقيط انما ( التنبيه والإعلام لخطورة الممارسات في داخلها ) لقد اكدنا اننا سنستمر في كشف الفساد لكوننا نستشعر خطورة هؤلاء على التربية الأخلاقية الفاضلة والتي يفترض ان تكون أساس ايمان الكهنة وفي ذات الوقت يجب ان لا ننسى دورنا في ما درسناه وتعلمناه من مؤسساتنا ومن اجتهادنا في سبيل تعميق ايماننا بالسيد المسيح والتبشير بفكره .. إذاً لا بد لنا من استراحة للعودة .. استراحتنا اليوم تخص محاورة بسيطة بيننا مع حضرة الكاهن د. رياض المحترم تخص مداخلته مع شماسه المختلف في العقيدة والذي يصعده على مذبحه حول ( قانون الإيمان الكاثوليكي البروتستانتي والأرثودوكسي والاختلاف بينهم في فقرة .. الروح القدس المنبثق من الآب او من الآب والأبن ) فلكل منهما سنده الكتابي الذي يشكل عقيدته الإيمانية والذي احرجه فيها وجعله ضعيفاً في الرد عليه ( الدفاع اللاهوتي ) والذي يفترض ان يكون ملماً فيه وكان جوابه له هو ( انها اجتهاد القديسين !! ) .. فعندما لاحظت حرجه قلت له سوف اكتب عن هذا الموضوع فأجابني : هل ستكتب باجتهاد منك … ؟ فأجبته كلا ولكنني سأستخدم ( الدفاع اللاهوتي ) وقبل ان ندخل في تفاصيل الاختلاف وسنمر عليها لاحقاً يجب اولاً ان نشرح هذين المصطلحين ( الأجتهاد والدفاع اللاهوتي )
وهنا نؤكد بأننا لا نمتلك الحقيقة كلها وان لنا القليل من الصواب والكثير من التصحيح فإن وجدتم فينا ذلك يرجى الإشارة إليه مع محبتنا وتقديرنا :
الاجتهاد : لن نتعمّق في فلسفة الاجتهاد بل سنأخذها ببساطة شديدة وسنعطي امثلة لتسهيل فهمها
المفهوم العام للاجتهاد هو : استقراء لمحيطنا الذي نعيش فيه ومحاولة فك رموزه للوصول إلى تطوّره .. فالاجتهاد هو من ( إعْمال العقل أي تشغيله من اجل التطوير ) إذاً فالاجتهاد هو مجاهدة شخصيّة يقوم بها المجتهد للوصول إلى توضيح مفاهيم لتصحيحها او لوضع مفاهيم جديدة .. لا يقتصر الاجتهاد على علم من علوم الحياة بل يشملها جميعاً ( العلوم الطبيعية وفلسفات الحياة وما بعد الحياة ” الوجود والخلود ” ) ( النظريات العلمية ، الاجتماعية ، الإنسانية ، السياسية ، الدينية .. الخ كلها وجدت من هذا المصطلح )
1 ) العلوم الطبيعية : جميع العلماء الذين مرّوا على حياتنا والذين سيأتون مستقبلاً هم مجتهدون يتخصصون في فروع علومهم ( الفيزياء الكيمياء الطب الهندسة الاقتصاد التجارة الزراعة .. وهلم جرا ) .
2 ) علوم الفلسفة المثالية والماورائيات : افردناها للحديث عن الماورائيات ومن ضمنها فلسفة الأديان
وهنا سنتطرّق للبعض من المجتهدين كأمثلة لا يزال العالم يدين بها واختصاص اجتهادهم بتصرّف :
أ ) افلاطون : اوجد النظرية الثنائية .. أي ان العالم يقوم على متناقضين ( الخير والشر وما يتبعهما ” المتناقضات ” ) وكما تطرّق في كتابه ( جمهورية افلاطون ) إلى عالمين متوازيين ( العالم الطبيعي وعالم الفضيلة الافتراضي ) .
ب ) بوذا : اوجد نظرية العالم الآخر : بشكل مختلف عن من سبقه وربطه بشروط العالم المادي وان مكافأة العالم الآخر تعتمد على المجاهدة في هذا العالم ( القيمة الأخلاقية الإنسانية في الحياة الدنيا ) وان سعادة الإنسان وخلاصه في ابديته تعتمد على كم قداسته اي طهارته ونقاءه في دنياه ومنها كانت نظرية التناسخ للوصول إلى القداسة الذاتية الماديّة ( مبدأ التواضع في نكران الذات ) وهنا فالخلاص ( فردي شخصي يتمحوّر في اذلال الجسد المادي وتقييد وتحييد شهواته )
ت ) فلسفات العالم الآخر : عن طريق الكهنة ( الفراعنة السومريين الصينيين وجميع الحضارات القديمة ) تختص فقط بالملوك وألوهيتهم والكهنة واعمالهم ومنها جاءت ( هندسة مقابرهم ) .
ث ) موسى : فلسفة الموازنة او المقارنة الثنائية : بين متطلبات الحياة مع الله ومتطلبات الحياة في العالم ( النظرة البشرية في قوانين الحياة بربطها بالأخلاق الفاضلة لله ) .
ج ) يسوع المسيح : فلسفة الحياة وما بعد الحياة ( القيامة من بين الأموات ) .. وسنفصل قدر الإمكان ذلك وما توصلنا له من تأملات .
1 ) طرح الثنائية من افلاطون ووضع لها أسس جديدة في إمكانية العيش مع المتناقضات للوصول إلى مجتمع الفضيلة ( انا في العالم ولكنني لست من هذا العالم ) . عالم الشهوات والرذيلة لكنني لا أتأثر بها ولن اسمح ان تؤثر فيّ لكوني أعيش في عالم الفضيلة ( عالم الله ). وهنا يفترض على من يؤمن به ان يوازن بين العالم الذي يعيشه والعالم الآخر “ أي ان يوازن بين متناقضين “.
2 ) اعتمد حياة الفضيلة من بوذا ووضع لها أسس ( الجماعة وليس الفرد ” المجتمع الفاضل يحققه الفرد الفاضل ” الفاعل ” الغير منفصل عن مجتمعه بل يعيش فيه ” ) وكذلك الأبدية في العيش مع الله وليس الذوبان في الله ( محيط السعادة النيرفانا كما في بوذا ) .
3 ) اعتمد فلسفة الموازنة من موسى فجردها من العقوبات لكون العقوبات لا تُصلح الإنسان بقدر ما تصلحه اخلاقه الإنسانية وتبعيّته لإله أخلاقي . وهنا أضاف الرسول بولس باجتهاد ليشرح ذلك في قوله : أبناء الله لا يخضعون لقوانين العقوبات ” الشريعة ” بل ان قانونهم الوحيد ” اللائق وغير اللائق ” فهل يليق بأبناء الملك ان يصنعون شراً .
4 ) نقض فلسفة الأبدية ( للمكابيين ) فعدلها من نظرية المكافأة المادية الجسدية في الملكوت ” العالم الآخر “ واعطاها بُعْد المكافأة الروحية . ( نصبح في الملكوت كالملائكة ” أي روحانيون “ فلا تنطبق علينا قوانين البشر الجسدية في علاقاتنا في ملكوت الله ).
5 ) لم يخترع السيد المسيح مبادئ ( المحبة والغفران والرحمة والسلام ) ولكنه تفانى في تحقيقها بشر بها وعلّمها وحققها في حياته وطبقها على حياة الآخرين فتعلّم كثيرون ممن أدانوا له ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الرائعين ( نيلسون مانديلا والمهاتما غاندي ) الذين استحقوا ان يلقّبوا برسل السلام .
6 ) واعظمها ( الله الأب ) فقد كان هذا اعظم اجتهاداته ومخرجاته ولم يسبقه احد ولن يأتي من بعده احد بهكذا نظريّة على أساس وقاعدة ( الحرّية الإنسانية وربْطها بإله انساني أخلاقي يسعى لتحرير أولاده من عبودية بشريّة تفرض نفسها بالخوف والإرهاب بوكالة القداسة الإلهية ” استعمار تغذيه جهالة قداسيه ” ) والتي بنيّت عليها جميع النظريات الكهنوتية الدينية التي ترسخ ( عبودية البشر ) .. وهنا يفرض السيد المسيح نظرية العيش مع الله بحرية قانونها ” احترام الآخر بمواصفات الإنسانية “ ( احبب الرب إلهك بكل قلبك وكيانك وجوهرك ” لتتمتع بأخلاق الله الإنسانية لتكون لك حياة في الأبدية “ أي ان تمتلك حقك في ملكوت الله ” .. واحبب الآخر كما نفسك “ لتتمتع بأخلاق المحبة والرحمة والعدالة والمساواة والغفران لتحقق عالم الفضيلة لا خيانة فيه ولا موبقات ولا مشتهيات دنيئة ” من اجل بناء الملكوت الأرضي “ ) فآلف ووافق بين ( حياة الله الأخلاقية الروحية المثالية وبين المشتهيات الجسدية الماديّة ) .
نعم لقد سبق السيد المسيح نظرية ( الإله الأب ) من حضارة وادي الرافدين لكن مضمونها وروحها يختلفان بما طرحه الرب يسوع المسيح , وبذلك نلاحظ الفرق بينه ومن سبقه وكأنه جمع بين حكمة فلاسفة العالم كلّه ليربطها بفلسفة الحياة الأبدية ” فلسفة الله أي حكمة الله “ وهنا كان ( تميّزه وتفوّقه ومنها كان ربطه بين حكمة الله ” الفائقة الكاملة ” وحكمة البشر ” الناقصة التي تحتاج لحكمة الله في تطويرها ” ) .
إذاً فمبدأ الاجتهاد هو مبدأ حياتي شامل لكافة مناحي الحياة ولا يختص بجزئية منها وهو أساس التطوّر البشري .. ويفترض ان يرافقه فعل ( الجهاد ) أي بالعمل المتواصل لتثبيته .. وقدوتنا رسول الأمم بولس الذي اجتهد وجاهد والذي ختم مسيرته الإيمانية بكلمة ( جاهدت الجهاد الحسن ) فقد اجتهد وجاهد في انشاء الكنائس وتفرّد في الخصوصية المسيحية واعطاها عمقها وعيّن كهنتها وبنى طقسها ( انظر سفر اعمال الرسل ورسائل الرسول بولس ) واليوم نحن نعيش اجتهاد هذا الرسول التلميذ النجيب في حياتنا الدينية .
نرجو ان يكون هذا الموضوع موضع حوار بناء ومناقشة ترتقي إلى مستوى اخلاقياتنا في المسيح يسوع سيدنا ورمزنا .. أسئلتكم وملاحظاتكم تجعلنا نبحث اكثر لتقديم الأفضل
في الجزء الثاني سنتكلّم عن ( اللاهوت الدفاعي ) مخرجاته وتبعاته .
الرب يبارك حياتكم جميعاً واهل بيتكم
الباحث في الشأن السياسي والأديان والمختص بالمسيحية
اخوكم الخادم حسام سامي 23 / 1 / 2025
Add Comment أضف تعليق