كلدايا مي: نختار مواضيع التي تعالج ظروف اليوم اتعس مما كان يوم امس
كنيستـي والسيـاسـة
إنه سؤال طالما يُطرَح في المجتمع. لكن كلمات المسيح لتلاميذه واضحة. فهو يقول لهم: انتم “في” العالم، ولكنكم لستم “من” العالم. كلمات لا لبس فيها ولا غموض. فأبناء الكنيسة بشريون مثل سائر الناس ومضطرون إلى العيش في مجتمعات بشرية متنوعة، وإلى التعاون مع اخوتهم البشر حيثما كانوا، في سبيل بنيان مجتمع يقوم على أسس صحيحة وثابتة، أسس المحبة والعدالة والسلام. فلا يجوز للمسيحي ان يتهرب من واجباته الاجتماعية، أيًا كانت الظروف أو الضغوط، بل عليه ان يسعى ليستخدم جميع الوسائل الممكنة للخير ومساعدة الإنسان في سبيل الحصول على حياة كريمة في عالم مشبع بالمظالم والمساوىء والاستغلال والاستعباد. فنحن إذًا في العالم، ويجب ان نبقى في العالم عناصر خير ومحبة. ولكن علينا ألا ندع روح العالم يتسرب إلى نفوسنا ليشوّهها ويجعلها تحيد عن مسارها الصحيح. لقد قبلنا روح المسيح، ويجب ان يبقى روح الإنجيل حيـًّا وفعّالاً في نفوسنا، بل مؤثرًا ومعديًا إلى الآخرين…
كنيستي مدعوة ألا تكون غريبة عن هذا العالم وشؤونه، ولكن بدون ان تلوّث بهاءَهـا. وتشكّل السياسة اليوم شأنًا مهمًا جدًا في بلدان العالم كله. وهذا لا يجيز لنا ان ننسى أيضًا ما قيل في السياسة: “ما إن دخلت السياسة أمرًا إلا أفسدته!” هذا مع احترام كنيستي العميق لرؤساء البلدان وساستها، فإنها تريد ان تبقى محايدة، بل حرة، كما قلنا سابقًا، وألا تدخل ضمن نطاق ضيق من الأديولوجيات والأفكار والمقاييس والمساومات البشرية. فسياسة المسيح كانت سياسة المحبة. هكذا يجب ان تكون سياسة كنيستي أيضًا، ولا سيّما ان السياسة في كل الأزمنة تستخدم معايير وموازين ليست مستوحاة حتمًا من روح الانجيل، بل هي متناقضة احيانًا معه، حتى في البلدان التي تدّعي بكونها مسيحية، أو لنقل لها صبغة مسيحية.
المـعـضلة الخطرة
هنا نحن أمام معضلة خطـرة أسالت الكثير من الحبر، وشغلت العديد من القنوات الإذاعية أو التلفزيونية، وملأت الكثير من الحقول في الانترنت وغيرها من وسائل الإعلام. والقضية مطروحة منذ نحو نصـف قرن.
أجل، منذ عقود عديدة من الزمان، ينادي بعض المغاليـن من القوميين المسيحيين بإنشاء دولة أو دويلة – سهل نينوى بالتحديد – تنعم بحكم ذاتي، ويسكنها مسيحيون من مختلف الفئات (كلدان – اشوريون – سريان) وتحكم ذاتها بذاتها، وهي تهدف إلى إحياء ذكرى الامبراطورية الاشورية، التي كانت مدينة نينوى (قوينجق) احدى عواصمها الكبرى. وقد زالت نينوى، شأن سائر عواصم العالم القديم، وذلك منذ سنة 612 قبل الميلاد. وزالت كذلك الامبراطورية الاشورية مع مجدها العظيم وسلطتها الواسعة، وتشتت الاشوريون شذر مـذر في طول بلاد بين النهرين وعرضها.
وانا لا أريد ههنا ان اقتحم هذا المعترك الشائك، ولا ابغي ان اجرح شعور اي إنسان حر في تفكيره وامانيه، ولست ارمي إلى معالجة هذا الموضوع من الناحية السياسية. ففي وسع القوميين الجدد ان يفكروا كما يشاؤون، وان يوطّدوا أمانيهم على ضروب من الخيال أو على أحلام اليقظة، وقد كلّفتهم هذه الأوهام اثمانا باهظة في العهود السابقة من الحكم في العراق، وما يدعو إلى الاستغراب انهم ما يزالون – ويشدة متزايدة – متمسكين بأفكارهم وطموحاتهم !.
لقد قلتُ وأكرّر ان كنيستي يجب ان تبقى حـرّة، وألا ترتبط بالسياسة والأحزاب والمحسوبيات. في وسعها ان تستفيد من مساعدة جميع المحسنين من ابنائها ومن الغرباء. ولكنها يجب ان ترفض رفضًا قاطعًا ان تُستغلَّ لأهـداف غريبة عن أهدافها السامية ولقيم مضادة لقيمها الانجيلية. فكنيستي تشكر جميع الذين مدّوا وسيمدون لها يد المعونة في هذه الظروف الحرجة. ولكنها ترفض ان تُستعبَـد لأحد، أيـًا كان. اما ان تُجَـرَّ كنيستي إلى اتّخـاذ خطوة قد تؤدي إلى ما لا تُحمَـد عقباه، فهذا أمر ترفضه رفضـًا قاطعًا.
فإن الكنيسة التي أسسها المسيح على هذه الأرض لم يعيّن لها رقعة خاصة ولا بلادًا تضمّها، بل قدّمَ لها العالم كله حقلاً لرسالتها. فقد قال لرسله: “اذهبوا إلى العالم كلـه… ” ولم يقل، مثلاً ، “توجّهوا إلى الجليل، وأسسوا فيه دولة أو مملكة”…. لكان، والحال هذه، قضى على كنيسته بالتقوقـع، وبالانعزال والزوال. وما أكثر الأمثال التي ضربها لكي يُطلعنا على صفات كنيسته. فهو يقول تارة لتلاميذه: انتم نور العالم، والنور من طبيعته يشعُّ على جميع الذين هم تحت حكمه، بغضّ النظر عن انتماأتهم. وقال لهم أيضًا: انتم ملح الأرض، أي الملح الذي يعطي الطعم والمذاق الطيب للعالم، ويقيه من الفساد. ولم يقل ذلك عن بلد أو بلدان محدودة، بل عن الأرض كلها. وقد شبَّـهَ المسيح ملكوته أي كنيسته بالخميرة التي توضع في العجين ليختمر كلـه. ويجب ان تتسرب هذه الخميرة في العجين كلـه، لكي تمارس فيه عملها المغيِّـر. وما الفائدة من الخميرة إذا فُصلت عن العجين؟ فلا العجين يختمر، ولا الخميرة تؤدي دورَها المنتظَر، بل تمسي بلا فائدة، وتجفُّ وتُرمى خارجًا…
ومنذ البداية، أدركت كنيستي دورها ورسالتها في العالم. وحيثما انتشرت الديانة المسيحية، انتشر معها هذا المنظور الشامل. ومنذ نهاية القرن الميلادي الأول، انتشرت المسيحية في بلاد الرافدين، وتوخّت نشر الحقيقة والمحبة بين جميع شرائح الشعب في هذه البلاد التي كانت كلها مسرحًا لرسالتها. فتجذّرت فيها الكنيسة بعمق، ونمت، وعاش المسيحيون مع الشعوب التي تعاقبت في السلطة على هذه البلاد، من فرثيين وساسانيين وعرب وغيرهم… وعرفت ان تفتح قلبها لتضمَّ محبتها جميع الشعوب والديانات. ذلك لأنها تستمدُّ نظرتها إلى الإنسان من نظرة الله نفسه: كل الشعوب والأمم أبناء له أحبّـاء، وهو يريد للجميع الخير والخلاص. فكنيستي تريد ان تعيش بين جميع شعوب العراق، وتنقل إلى الجميع محبةَ الله ورحمته. فهل يجوز ان نفصلها ونعزلها لنجعل منها دولة خاصة؟ لقد تعلمنا من خبرة الأجيال الطويلة ان جميع البلدان التي ادّعت بكونها “مسيحية”، أساءت إلى المسيحية في الواقع أكثر مما نفعتها.
فأنا شخصيًا ارفض ان تُحبَس كنيستي، أيا كانت التسميات التي أُلصقت بها، في موضع أو رقعة خاصة تعرّضها لخطر مميت، إذ تجعلها بين المطرقة والسندان: مطرقة الأكراد وسندان العرب! في حين ان المسيحيين يعيشون منذ البدء في إخاء وتعاون مع العرب، وفي تفاهم وتضامن مع الأكراد، ويريدون ان يعيشوا كإخوة مع الجميع، وان يبنوا الوطن مع الجميع، كما اشتركوا مع الجميع في المصائب التي حلّت بهذه البلاد، ويحق لهم ان ينعموا أيضًا مع الجميع بالسعادة والرفاهية والسلام في المسقبل.