في تطور لافت ومفاجيء لمواقف مسؤولي إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما تجاه الدور الإيراني في العراق اعتبر وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، في الثامن والعشرين حزيران/يونيو من الشهر الحالي أن وجود إيران في العراق “مفيد” للمحاولات الأمريكية لصد تهديد تنظيم “داعش”. وجاء الثناء المحسوب لدولة علاقتها بالولايات المتحدة الأمريكية يشوبها التوتر في مهرجان “أفكار آسبن”، حيث طُلب من كيري تقييم ما إذا كانت إيران أكثر “نفعا أو ضررا” في العراق.
قال جون كيري: “انظروا، علاقتنا مع إيران تواجه تحديات كما يعلم الجميع، ونحن نتعامل مع تلك التحديات،” مضيفا: “لكن أستطيع إخباركم أن وجود إيران في العراق كان مفيدا بطرق معينة، ومن الواضح أنها تُركز على داعش، ولذلك لدينا مصلحة مشتركة في الواقع.”وشرح وزير الخارجية أنه مع نظيره الإيراني، جواد ظريف، يمكنهما الآن حل الأزمات العالمية بسهولة أكبر والتواصل مباشرة.
يُفهم من هذا الثناء الأميركي على دور إيران في مواجهة تنظيم داعش الإرهابي في العراق هناك بوادر تغيير في “قواعد اللعبة” التي جمعت مؤخرا بين الولايات المتحدة الأمريكية والنظام الإيراني في المشهد العراقي، من التنافس الشديد على تعظيم نفوذ كلّ منهما هناك من خلال محاولة تزعّم الحرب على التنظيم المتشدّد، إلى التوافق وتوزيع الأدوار وتقاسم المغانم وهو الأساس الذي كان اجتمع عليه الجانبان قٌبيل العدوان الأمريكي على العراق واحتلاله في التاسع من نيسان/إبريل عام2003م. فتوافقهما قاد إلى إخراج العراق من المعادلة الإقليمية بإضعاف دولته وتفكيكها وإحياء نوازع الطائفية والعرقية في مجتمعه. وتقتضي العودة إلى هذه الأرضية من الولايات المتحدة الأمريكية التحوّل من التنافس مع إيران على قيادة الحرب ضدّ داعش في العراق استعدادا لمرحلة ما بعد التنظيم إلى التنسيق معها على أساس تقاسم مكاسب تلك الحرب.
ويأتي هذا الثناء أيضاً منسجماً مع سياسة الرئيس الأمريكي باراك أوباما التي تقوم على الانفتاح والتقارب وتطوير العلاقة مع النظام الإيراني. وتنطلق هذه السياسة من عدة حسابات، أحدها الدافع الشخصي للرئيس باراك أوباما،والذي يرتبط بما يسمى بالإرث التاريخي للرئيس أي رغبته بأن يسجل التاريخ عنه أي الرئيس الذي أعاد العلاقة مع إيران- وكذلك كوبا-بعد قطيعة استمرت لعدة عقود، وربما يكون هذا إنجازه الوحيد في مجال السياسة الخارجية. الدافع الآخر يتعلق بسعي الولايات المتحدة الأمريكية الأمريكية للتوصل لتفاهمات مع إيران حول المناطق المشتعلة بالشرق الأوسط في العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن، مما يساعد على تخفيض الوجود الأمريكي بالمنطقة.
يضاف لذلك الدوافع المتعلق بالمصالح الأمريكية المباشرة التي ستترتب على مرحلة ما بعد رفع العقوبات عن إيران، ومنها دخول الاستثمارات الأمريكية لمجال النفط الإيراني، وزيادة إنتاج إيران من النفط، والذي سيؤدي لزيادة العرض من هذه السلعة، وبالتالي استمرار انخفاض سعرها في الأسواق العالمية، وهو ما يصب في مصلحة الاقتصادات الصناعية المستهلكة له، ويضر بمصالح الدول غير الصديقة للولايات النتحدة الأمريكية. التي تعتمد على النفط كمصدر أساسي لدخلها، مثل روسيا وفنزويلا. كما أن زيادة الإنتاج الإيراني من الغاز الطبيعي سوف يفتح أمامها الفرصة للتصدير للاتحاد الأوروبي، وبالتالي تقليل اعتماد دوله على واردات الغاز الروسي، وهو أيضاً مصلحة أمريكية. كما يرتبط الثناء الأمريكي بالدو الإيراني في العراق بالتطورات الدولية، فهي لا تخلو أن تكون رسالة إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على خلفية تطبيع علاقات بلاده مع روسيا.
وفي السياق المديح الأمريكي لكن هذه المرة لميليشيات الحشد الشعبي حلفاء إيران في العراق، قال مبعوث الرئيس الأمريكي للتحالف الدولي ضد “داعش”، بريت ماكغورك،” إن الميليشيات الشيعية التي تدعمها إيران أغلبها مفيد في العراق، رغم أن بعضها يتمرد ويرتكب تجاوزات”.وأضاف ماكغورك: “نعتقد أن أغلب قوات الحشد الشعبي تعمل تحت سيطرة الدولة العراقية، ولكن قرابة 15 إلى 20 في المائة منهم لا تعمل تحت سلطة الحكومة، وهذه الجماعات هي المشكلة الأساسية.”
ألا يعلم “بريت ماكغورك” أن هذه المليشيات وأبرزها عصائب أهل الحق وحزب الله العراقي وسرايا الدفاع الشعبي ولواء أبي فضل العباس بفضل قدراتهم المالية والبشرية الكبيرة، التي تتلقى دعمها من إيران. أصبحوا عبر ممارساتهم وسلوكهم الميداني سلطة تفوق كل السلطات في مرحلة عراق ما بعد عام 2003م. فقد أتاحت الحرب على داعش في العراق لإيران أن تترجم سيطرتها السياسية على المشهد العراقي إلى سيطرة ميدانية من خلال تلك المليشيات التي تعتبر من حيث الواقع جيشا إيرانيا رديفا على الإقليم العراقي، بينما ما تراه المملكة العربية السعودية حليفة الولايات المتحدة الأمركية فيما يتعلق بدور الحشد الشعبي في العراق يتناقض تماماً مع ما صرح به مبعوث الرئيس الأمريكي، فقد دعا وزير خارجيتها عادل جبير في الثامن والعشرين حزيران/يونيو الحالي،في المؤتمر الصحفي الذي عُقده في باريس في ختام زيارة ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لها، الى “تفكيك الميليشيات الشيعية التي تقاتل الى جانب الجيش العراقي ضد تنظيم الدولة الاسلامية، متهما اياها بتأجيج التوتر الطائفي” وأضاف “الحشد الشعبي طائفي وتقوده ايران”. وتابع “كانت هناك تجاوزات” خلال معركة الفلوجة “نعتقد ان هذه الميليشيات يجب تفكيكها وينبغي على الجيش العراقي محاربة تنظيم الدولة الاسلامية”. فرؤية المسؤولين الأمريكيين من الحشد الشعبي قد تتطابق مع الرؤية الإيرانية وتتناقض مع السعودية، وهذا الأمر أي التطابق والتناقض قد يثير الاستغراب لمرحلة قصيرة من الزمن لأنهما يمثلان جوهر السياسة الواقعية التي معيارها المصلحة العليا للدولة.
وهذا يتضح بشكل جلي أن الاميركيين أسياد الجو في العراق أعلنوا مراراً أنهم لا ينسّقون مع الإيرانيين ولا يدعمون معارك تخوضها أو تشارك فيها ميليشيات منفلتة، خصوصاً أن سوابق ديالى وتكريت برهنت أن عصابات الطائفيين الموتورين متشبّعة بعقيدة ثأرية. غير أن الوقائع بيّنت أن «عدم التنسيق» عنى أن يقوم الأميركيون بما يناسبهم، كذلك الإيرانيون وميليشياتهم، حتى لو أدّى ذلك إلى تشويه الأهداف المتوخاة من عملية «التحرير». وفي حال الفلّوجة كان ينبغي التحوّط لـ «الثأرية» التي ضاعفت هوس زعماء الميليشيات وجاءت بقاسم سليماني وتوصيات المرشد، فهؤلاء يعتقدون أنهم أجادوا إدارة الدولة في العراق وأن هذه المدينة هي التي أفشلت تجربتهم، ولذلك أرادوا الانتقام من سكانها.
أن تجاهل الولايات المتحدة الأمريكية مشاركة ميليشيات الحشد الشعبي في معركة مدينة الفلّوجة التي أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي مؤخرا عن انتهائها، قد يدفعنا إلى القول بأن هناك قبول أمريكي لتلك المشاركة رغم حجم الاعتراضات والتحذيرات من انزلاق المعركة باتجاه ارتكاب انتهاكات طائفية وهو ما حدث فعلا من خلال الاعتداءات الكثيرة التي تراوحت بين الاعتقال والتعذيب والقتل ونهب الأموال والممتلكات التي مارستها الميليشيات الشيعية ضدّ المواطنين السنّة لمدينة الفلّوجة. والذي يعزز هذه الفرضية، أن الولايات المتحدة الأمريكية مارست تأثيرها على الحكومة العراقية لمنع مليشيات الحشد الشعبي من المشاركة في الخطوط الأمامية لمعركة الرمادي، وإجبارها على دور ثانوي يتمثل في الإسناد بالخطوط الخلفية. وهذا ما حدث بالفعل.
أمّا في معركة الفلّوجة ضد تنظيم داعش الإرهابي فكان دور ميليشيات الحشد الشعبي كبيرا، ويبدو أن عدم اعتراض الولايات المتحدة عن مشاركتها فيها رفع طموح قادتها، لتجاوز مجرّد المشاركة في الحرب إلى احتلال المدينة والبقاء فيها، بحسب ما صرّح به نائب رئيس الحشد الشعبي أبومهدي المهندس الذي قال إنّ “قوات الحشد الشعبي ستبقى في كل أماكن تواجدها الحالية ولن تترك مواقعها، بل ستبقى تمسك بالأرض”، مضيفا أنّ “الحشد ليس شيئا إضافيا، وإنما هو جزء أساسي ومهم من القوات المسلحة، وستبقى هذه القوات حشدا وجيشا وشرطة في كل بقاع أرض العراق ومن ضمنها قضاء الفلوجة”.
إن الولايات المتحدة لم تكن مضطرة إلى تبني سياسة الأمر الواقع خيارا وحيدا للتدخل الإيراني في العراق ولعلاقتها بما يجري فيه لولا أنها ساهمت في صنع ذلك الخيار حين صمتت أولا عن مشاركة مليشيات الحشد الشعبي في العمليات القتالية، بالرغم من أن تلك المشاركة كانت موضع اعتراض من أهالي المناطق المنكوبة بداعش، وثانيا عن الانتهاكات التي مارستها مليشيات من الحشد في العديد من المناطق التي تمت استعادتها من قبضة داعش وكان آخرها الفلوجة. لذا فالتساهل الأميركي تجاه مليشيات الحشد الشعبي هو ما شجع أمراء الميليشيات على الإعلان صراحة عن مشروعهم في التطهير الطائفي من غير أن يخشوا الاتهام بارتكاب جرائم إبادة. وحذّر من أن خطة إفراغ المدن ذات الغالبية السنية من مواطنيها ماضية في طريقها، وأنّ هناك اليوم الملايين من المشردين، من غير أن يكون هناك أمل في عودتهم إلى مدنهم المدمرة، فيما يقابل الأمر بإنكار رسمي لوجود أولئك المشردين.
إن الخلاص من «داعش» وحرمانه من مناطق سيطرة يتحكّم بأهلها ومواردها وتراثها ومستقبلها، وبالتالي القضاء عليه… تلك أهداف لا ينقضها أي عاقل، ولا تحتمل الجدل أو أنصاف الحلول. لكن هل هي فعلاً أهداف الولايات المتحدة وإيران، وهل لديها مصلحة في تحقيقها، وطالما أنها منخرطة في هذه المعمعة فهل تعمل حالياً على إنهاء هذه الحال الإرهابية إلى غير رجعة؟ لا الدرس الأفغاني أفاد الروس ثم الأميركيين بعدهم، ولا الدرس العراقي علّم الأميركيين شيئاً آخر غير كذبة «التدخّل بعدم التدخّل» إلى حد تعمّد العمى، تجنّباً لرؤية الدور الإيراني، ليس فقط بالتدخّل الذي أصبح الآن بالغ الفجور والعلنية، بل خصوصاً في تصنيع تلك الحال الإرهابية التي يدّعي المتدخلون أنهم إنما جاؤوا لتخليص العالم من شرورها.
خلاصة القول: إن تقاسم الأدوار بين الولايات المتحدة الأمريكية والنظام الإيراني في العراق والظروف التي يوفّرها الأميركيون له تساعده على جني ثمار سياساته العدوانية والتخريبية في العالم العربي وحتى بمكافأته بمحاربة إرهاب صنعه ورعاه. ربما عبر صفقة مع النظام الإيراني يسمح بوجود قوات أميركية في العراق، والحصول على احتكار النفط، على أن يبقى الدور البارز لقوى إيران قائماً، وأن يظل التأثير الإيراني واضحاً. وبناء على لعبة”تقاسم الادوار” بينهما فلم يعد هدف إدارة باراك أوباما في العراق سوى حسم معركة داعش وليس إضعاف سيطرة النظام الإيراني على مفاصل نظام الحكم في العراق، وإضعاف “قوى إيران”، وغيرها من المجموعات الطائفية التي أدلجتها ودرّبتها إيران منذ عقود، وباتت جزءاً من النظام الجديد الذي أقامه الاحتلال الأميركي بتفاهم أميركي إيراني، حيث كانت الولايات المتحدة الأمريكية تعتقد أن وجودها العسكري هو الضامن لبقاء العراق “تحت السيطرة”، على الرغم من سيطرة قوى إيران على النظام الذي رتبته هي. لكن انسحابها العسكري فرض الهيمنة الإيرانية على نظام الحكم في العراق، من خلال كل تلك القوى، وبالتدخل المباشر الذي تقوم به.
هذا التقاسم الأمريكي الإيراني لابد من التعلم منه والبناء عليه، فالتحالفات التقليدية غير مجدية مواجهة تحدى إقليمي كالنظام الإيراني ومشروعه التوسعي في البيئة العربية. لاسيما وأن الواقعية السياسة تُعلمنا درساً ضروري الانتباه إليه بأن “محور الشر” و”الشيطان الأكبر” يتبادلا الأدوار في العراق ويمكن أن يمتد هذا التبادل في البيئة العربية والإقليمية، ولما لا. طالما المصالح هي المعيار الحقيقي لتقارب الدول وتنافرها.
معمر فيصل خولي
مركزالروابط والبحوث والدراسات الاستراتيجية