Articles Arabic

طروحات و أسئلة حول كتاب المرحوم الأب الدكتور يوسف حبي مجامع كنيسة المشرق (الجزء الثالث)

منقول من الكتاب مجامع كنيسة المشرق (ص 19 – 22)

 

مجمعية الكنيسة:

السؤال المطروح الذي نود الإجابة عليه هنا هو التالي: اننا نقر في (قانون الايمان) بان الكنيسة واحدة، جامعة، مقدسة، رسولية، فهل هي “مجمعية” ايضاً؟ أم ان المجمعية صفة ثانوية وسمة غير ضرورية من سمات الكنيسة؟

لا بد أولاً من شرح معنى هذه اللفظة التي نفضل استعمالها دون غيرها. فالمقصود بـ(المجمعية) لقاء الكنيسة، مسؤولين، رؤساء، أفراداً، أعضاء، وجماعات، أبرشيات، وكنائس، في مجامع: محلية، إقليمية، عامة، مسكونية. ما يعبر عنها باللغات الغربية بلفظة (Synodalitas)، ومنها السينودس والسنهادوس، أي المجمع. والمجامع إما إيمانية إذ تتناول مسائل تخص الايمان، أو رعوية إدارية حين تعنى بشؤون تنظيمية تدبيرية.

وثمة نقاش مفتوح مفاده: هل الكنيسة مجمعية من صلب بنيتها، كما يقول الشرقيون عادة، أم ان الطابع المجمعي ثانوي في تكوين الكنيسة وحياتها، كما يريد اللاهوت الغربي، الكلاسيكي منه على الاقل؟

لقد حسم المجمع الفاتيكاني الثاني الأمر، بالنسبة للكاثوليك على الأقل، فأكد على السمة المجمعية كشيء أساسي في الكنيسة (دستور عقائدي في الكنيسة، نور الأمم، رقم 22) ولنشرح الأمر بايجاز.

كوّن المسيح “جماعة الرسل” مصافاً وحلقةً، وعهد إليهم رعاية المؤمنين. ولا يتعارض هذا مع العضوية الأساس لجميع المؤمنين في الجسد الواحد: “أنا الكرمة وأنتم الأغصان”، كلنا جسد واحد في المسيح، وأعضاء لبعضنا، وهو، رأس الجسد. فثمة أعضاء تتقدم على غيرها في الكرامة، وهو إختيار يعني مسؤولية، كما يتطلب تجاوباً وتضحيات. ويأتي التقدم على صعيدين: اللامنظور، ويكون بسبب القداسة والكمال، والمنظور المرئي بسبب الخدمة والرسالة، مع بقاء الجميع للعمل معاً، وبانسجام، ضماناً لوحدة الجسد.

منذ الأيام الأولى بعد القيامة والصعود والعنصرة، شعر الرسل بأنهم منتدبون للخدمة والرسالة، في عهد جديد روحي إنجيلي يشيع أجواء العدل والحب والسلام. فالخدمة انتداب يتم تحت إرشاد الروح. وللخدمة طابع رئاسي يبان بوضوح، لأننا منذ عهد الرسل (كما في اعمال الرسل والكتابات المسيحية الأولى) نجد ولادة رئاسة تدبير تستمر في خلفائهم، بواسطة وضع اليد (الرسامة) لمنح الروح، بحيث برز دور الشيوخ (قشيشي)، وعملهم الجماعي الخاضع لتقليد معين، وكان لكل جماعة – كنسية كاهن (قسيس)، بل أسقف يساعده شمامسة (مشمشاني = خدام)، من اختيار الجماعة، ورسامة وتثبيت من قد قبلوا وضع اليد بتقليد رسولي، وللمرتسمين الرعاة سلطة تعليمية (نقل البشرى بالتعليم والوعظ والتفسير)، وتدبيره (الإدارة، ووضع الشرائع والقوانين، والسهر على تطبيقها، بروح الحفاظ على التقليد الحي)، وطقسية (التقديس وخدمة الأسرار).

وطبيعي أن ينتشر الرسل وتلاميذهم في كل مكان لنقل بشرى الخلاص، فلا تحصل لهم لقاءات ولا يشعرون بالحاجة إلى عقد اجتماع إلا حين تثار مشكلة أو خلاف في وجهة نظر معينة أو في تطبيق ممارسة دون أخرى. وبديهي أن تتعمق الجماعية إثر نشوب خلافات، فتعتلن آنذاك سلطة الرسل وتلاميذهم وخلفائهم. لنا في ذلك مثال واضح في انعقاد مجمع أورشليم سنة 49/ 50 م لفض مشكلة التهود التي هددت كيان المسيحية في الصميم، وكادت تقوض أركان الكنيسة الناشئة، فكانت المجمعية آية الخلاص، و كان تصريح اللقاء-المجمع رائعاً: “فقد رأى الروح القدس ورأينا نحن…” (اعمال 15: 28).

وحياة الكنيسة الأولى، كنيسة الرسل، حافلة بالجماعية، والشركة، والوحدة (أعمال 2: 42- 47، 4: 32- 35). ولم يقوَ انتشار المسيحية السريع والكبير على إضعاف هذه السمات والممارسات والأهداف.

ثم كانت تأثيرات عديدة، أهمها تلك المتأتية من أجواء هيلينية وهلنستية، دفعت الكنيسة-الكنائس إلى تنظيم كيانها مجتمعاً، مؤسسة، بل شبه مملكة دينية سلطوية هرمية، على رأسها سيد مطلق، يشبه الملك، إنما غير وراثي السلطة، هو الرئيس الأعلى . سلطانه من الله بواسطة تقليد كنسي وخلافة رسولية، على رأس مدينة كبيرة أو عاصمة، بادئ ذي بدء، يتمتع بفضل موقعه المدني بموقع ديني متميز، فكان نشوء المطرافوليطيات (ميتروبوليس، ومنها المطرافوليط أو المطران). ثم تجمع أكثر من مطرافوليطية في بطريركية (بطريرك= أب)، وصولاً الى تفرد البابوية (بابا = أب) في الغرب أولاً، ثم بشكل شمولي، متى استعرضنا الأمور تاريخياً من حيث اعتلان السلطة في الكنيسة وتبلورها و خضوعها لأحكام التجسد والتكيف.

هل قلل هذا كله من اعتبار الكنيسة سراً، بل مستودع أسرار، هي الواحدة المقدسة الجامعة الرسولية؟ من المفروض ان يكون الجواب كلا، لأن الكنيسة مسيرة خلاص، جسد المسيح وسره . ومن الخطأ والخطورة الفصل بين البعدين، المنظور واللامنظور، والمواهب والرئاسة، والروح الخدمي والسلطة الرئاسية .

كل معمد هو كاهن في إطار الكهنوت العام . وثمة كهنوت خدمة (مسؤولية ورئاسة) يتخطى ما يشترك به سائر المؤمنين من مسحة كهنوتية . وكل ما في الكنيسة، من تجسيدات واقعية وأقوال وطقوس ومؤسسات ونظم وقوانين يحتاج الى رئاسة، إنما بروح الخدمة والمحبة، لأن أساس الشريعة المسيحية: المحبة . والبنية الكنائسية شركة مؤمنين يتبادلون العلاقات في الأزمنة والأمكنة المختلفة، يواكبهم تقليد رسولي يؤهلهم أن يكونوا واحداً في الجوهر الأساس، مع تعدد التجسيدات الواقعية الأوجه والأبعاد، في تناغم وانسجام وغنى إنجازات وإبداع . هذا كله يجعلهم يقبلون بالجماعية، من باب ضرورة الأخذ بالأبوة الشاملة لله، والأخوة الشاملة للبشر، والخلاص الشامل للجميع، نتيجة تجسد إلهي يؤله البشر . كما يدفعهم الى الأخذ بالمجمعية، لأن الجميع جسد، وللأعضاء خواص وصفات ومهام، عملها كله نحو الواحد . ذلك أن الرسل مؤسسي الكنائس- الجماعات- الكنيسة هم (جماعة) وحلقة ومصاف، لا أفراد منعزلون واشخاص فريدون لا تكرار لهم إلا بمعان محددة، بل يخلفهم الأساقفة، الرؤساء الكنسيون، بوضع اليد، مسحة الروح، الانتداب للخدمة . وكل أسقف هو عضو في المصاف عينه، بطابع سري ودرجة مقدسة خاصة، لخدمة الجسد الواحد، كل الكنيسة، أياً كانت خدمته المباشرة، حدود ولايته، أبرشيته، والأشخاص الذين يخدمهم، لأنه يخدم الخلاص . وهو بذلك يخدم الكنيسة جمعاء من خلال الخدمة التي يقوم بها في حدود صلاحياته وسلطانه . هكذا يتجلى التقليد الرسولي في العالم، ويستمر بواسطة الذين هم خلفاء الرسل لخدمة الجماعة كرعاة للكنيسة .

في الختام سؤال يطرح نفسه: هل الكنيسة اليوم على هذه الصورة الرسولية كما طرحها المؤلف؟

Follow Us